3 اختصاصيين نفسيين يشرحون سرّ صمود الجنوبيين و»مقاومتهم الداخلية

يرفعون شارات النصر، لا يمنعهم نزوحهم. متيقنون من أنهم عائدون
يرفعون شارات النصر، لا يمنعهم نزوحهم. متيقنون من أنهم عائدون


ويُعاد تصوير مشهد الرابع عشر من آب .٢٠٠٦ صباح يوم الإثنين الباكر، يترك الجنوبيون المراكز التي استضافتهم خلال عدوان تمّوز وينطلقون عائدين إلى »الديار«. زحمة سير خانقة، قوافل العائدين تجد لها ممرّات بين الركام، ولا تتردّد في اللجوء إلى الطرقات الفرعيّة حيث تقطّعت أوصال الجسور. ويبلغون قراهم.

هناك، المنازل ركام ضاع فيه كلّ ما تركوه وراءهم حين نزحوا على عجل. أما على تخوم حقولهم، فيقف من يحذّرهم من القنابل العنقوديّة التي فخّخ بها العدو أرضهم. هم كانوا قد خالوا أنفسهم تخلّصوا من معضلة الألغام، فبرزت أخرى. حتى مواسم التبغ تلفت. لكن التبغ ليس أغلى من فلذات الأكباد.

هم عادوا من »منفاهم« في قلب الوطن، عادوا الى أرضهم المحروقة.. تطلق النسوة الزغاريد احتفاءً بالعودة والنصر، في حين ينصب الرجال خيماً على أنقاض ما كانوا قد أعادوا بناءه بعد اعتداءات متكرّرة حملت التوقيع نفسه.

كيف يتراجعون وهم »المنتصرون«؟ كيف يتركون أرضــهم وهم يدركون في أعماق أنفسهم بأن وجودهم لا يكون إلا بها وإن محروقة.. وإن مفخّخة؟ هذه أرضهم وهم لم يعتادوا تركها يوماً إلا مرغمين. هذه أرضهم التي تواجه عدواً ما تمكّن منها يوماً...

غداة عودة الجنوبيين إلى أرضهم، وتصــميمهم على البــقاء فيها، وإن عــلى الأنقاض، راح الكثيرون يتساءلون، وما زالوا، عن هـذه الظــاهرة التي تجعل هؤلاء متشــبّثين بأرضهم ومصمّمين على الاستمرار والبــقاء في وجه كل التحـديات والتهــديدات. فأن يعيد المرء بناء منزله، مرة تلو مرة، ويــعود من جديد إلى حــقله المفخّخ، ويتـجاوز فقدان فلذة كبده.. أمور قد لا يفهمها كثــيرون، لكن علم النفس يشخّصها على أنهــا تمــثّل ظاهرة تدعى »Résilience«، وهو تعبير يحتمل ترجمات عربية عدة، منها: المقاومة الداخــلية، أو القـدرة على الاحتمال، أو القدرة على مواجهة الضـغط، أو كــيفية عبـور المحن.

وأهل الجنوب، على الرغم من تلك الظاهرة، كانوا قد تعرضــوا خلال حـرب تموز إلى صدمة أو »تروما« (trauma).. واقع يسلّم به اختصاصيو علم النفس، الذين عمل بعضهم مع هؤلاء الأهالي في مراكز النزوح أو في المناطق الجنوبية بعد »العودة«. تلتقي »السفير« ثلاثة منهم، في محاولة للإجابة على التساؤلات المطروحة: الدكتورة ميرنا غناجة، أستاذة محاضرة في علم النفس في جامعة القديس يوسف ورئيسة »جمعية العناية بأطفال الحرب«؛ المتخصصة في علم النفس العيادي ميساء الحسيني؛ والمعالج النفسي غسان عساف.

لا بد أن هناك ما يميز أهالي مناطق الصراعات عادة عن سواهم.. »هم يعتادون على هذا النمط« تقول د. ميرنا غناجه، »ونحن لاحظنا أن الذين عاشوا وهم يختبرون الضغوط تلو الضغوط، يخلقون آليات دفاعية (mécanismes de défense) تساعدهم على الاستمرار على قيد الحياة وعلى المواجهة. لكن الصدمة تكون عندما يأتي حدث مفاجئ وكبير يحدث تغييراً في المعادلات. فيترتب على هؤلاء المستهدَفين أن يواجهوا خسائر عديدة من دون أن يكون ذلك متوقعاً. على سبيل المثال، إذا ما وقع الزلزال الذي يتحدث عنه الخبراء اليوم، فسوف يأتي كمجزرة قانا. من هنا فإن انعكاساته ستكون سلبية من دون أدنى شك«.

وتشرح غناجه آليات الدفاع موضحة أن ذلك »يرتبط بكل فرد على حدة. في كل إنسان نجد »الأنا« (le Moi). وهناك مواقف في الحياة يكون المرء فيها قلقاً جداً، الأمر الذي سيدفع »الأنا« إلى الدفاع عن نفسها. وعملياً، في الحياة، ليس هناك سوى القلق، فلحظات السعادة عابرة«. وتوضح أن هناك آليات أكثر فعالية من غيرها: »يمكنني مثلاً عقلنة الأمور على الصعيد الفكري، أو يمكنني الكتابة أو الرسم أو في قدر المستطاع التعبير بالكلام عما يحصل. لكن هناك أشخاصاً لا يستطيعون التفريغ بالكلام، هم إنطوائيون، لذا نراهم يدافعون عن أنفسهم بطرق مختلفة. آخرون، سوف يكونون مشوشين كلياً وستكون بالتالي آليات دفاعهم بدائيّة (archaïques)، ولن تسمح لهم بمواجهة القلق. هؤلاء هم الذين سيتعبون على الصعيد النفسي. من بين آليات الدفاع البدائية، هناك الإسقاط التحويري (projection) وهي عملية يعزو بها الفرد إلى سواه عواطفه ودوافعه الخاصة. مثلاً أشعر بالسوء، فأعزو إليك سبب شعوري هذا. إلى ذلك، هناك أيضاً الإنكار.. سوف أقول أنه لم يحدث أي شيء وهذا خطر جداً. لكن ذلك يرتبط بتوقيت الحدث الصادم، ففي بعض الأوقات يمكنني مواجهة الأمور بطريقة أسهل. مثلاً، إذا وقع اليوم زلزال وأنا أعاني من مشاكل أخرى، سيجعلني ذلك أكثر حساسية وقابلية للإنجراح. وهذه هي الحال اليوم بالنسبة إلى أهل الجنوب وكذلك بالنسبة إلى بقية الشعب اللبناني. الجميع يعاني من التعب، وهناك ضيق (malaise) اجتماعي«.

من جهته، يشير غسان عساف إلى أن »ما لاحظناه عند أهل الجنوب هو ظاهرة نجدها لدى كل الشعوب التي تتعرض للحروب المتكررة، مثل فلسطين أو البوسنة،... فيصبح باستطاعة المرء »العضّ على الجرح« وبالتالي تكبر لديه قدرة التحمّل. وهذا ما فاجأنا، إذ أن الصدمات التي قد يتعرّض لها تجعله عادة أكثر ضعفاً، لكنها هنا تجعله أقوى«. ويؤكد أن مسألة القضية هي »مخرج باتجاه الشفاء. فإذا ضحّيت ببيتي أو بسيارتي أو براحتي النفسية، سيكون الألم كبيراً. لكن إذا كان ذلك من أجل قضية محقة فلن أعتبرها خسارة بل تضحية في سبيل ربح أكبر. ولهذا مفاعيل علاجية«.

إيديولوجيا في خدمة الصمود

ومصدر القدرة على مواجهة الضغط أو كيفية عبور المحن، عند أهل الجنوب، تعيده غناجه إلى »عامل إيديولوجي يجعلهم يؤمنون بأن لديهم مهمة أو رسالة ما يؤدونها. وهذا يساعد على الصمود والمقاومة. فأطفال كثيرون، بشكل خاص المقرّبون من حزب الله، مقتنعون بأن أقرباءهم الذين فقدوهم في الجنة. وبالتالي إذا ما وقع لهم أي مكروه فسيذهبون بدورهم إلى الجنة. إذا كنا مقتنعين بما يؤمنون به، وتتبعنا منطقهم، فسنجد أن ذلك يمنحهم القوة، بالفعل«. لكنها تلفت إلى أنه بحال قرر هؤلاء، في يوم، عدم الانتماء إلى هذه الإيديولوجيا أو مشاركة آراء حزب الله، فقد نشهد حينها حالة اكتئاب ما«.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن غناجه كانت قد بدأت العمل مع أهل الجنوب المتضررين في العام ١٩٩٦ بعد مجزرة قانا. و»جمعية العناية بأطفال الحرب«، التي تترأسها، كانت الوحيدة التي أنشأت في ذلك الحين مراكز جنوبية للمتابعة النفسية الخاصة بالصغار والكبار على حد سواء، في كل من صور والنبطية، ليُضاف إليهما مركز في مرجعيون، وآخر في صدّيقين بعد تموز .٢٠٠٦

من جهته، عمل عساف، بعد العدوان الأخير، طوال ثمانية أشهر في مركز استحدث في صور بإشراف الدكتور عدنان حب الله. فيقول إن »ما كنا نقوم به كان جديداً وغريباً بالنسبة إلى أهل تلك المناطق وكأنه تبشير في أرض بكر. ما يطغى هناك هو العقائد الشعبية أو الدينية، وما يشفي هو إما التطيُّر، أي الوهمي والخرافي (superstition)، وإما الدين... لذا عمدنا إلى إعداد ورش عمل مع المربّين والعاملات الاجتماعيات والأطباء بهدف مساعدتنا على استقطاب من هم بحاجة إلى تدخل. وهؤلاء الأخيرون تقبلوا الأمر بعدما لمسوا أننا موجودون لتقديم المساعدة، وليس للحكم عليهم أو انتقادهم«.

لكنه يلفت إلى أنه »وبعدما كنا نتوقع صدمات نفسية أكبر، فما لمسناه هو أن عقيدة المقاومة والتصدي والتمسك بالأرض وبالقضية جميعها عوامل شكلت حاجزاً ما بين الصدمة النفسية والأهالي، كذلك فعل توظيف الخوف والقلق في العقيدة. لكن لذلك مفاعيل بحدّين: الأول إيجابي، لأنه درع واق من الصدمة. أما الثاني فسلبي، إذ أنه في حال وقعت معي مشكلة نفسية نتيجة الاعتداء، فسأعتبر نفسي مهزوماً«.

بالنسبة إلى ميساء الحسيني، فإن »الإيديولوجيا وُجِدَت لسبب ما، وهي لم تأتِ من الفراغ. صحيح أن حزب الله وعقيدته ساعدا الناس على البقاء، لكن هؤلاء هم الذين سمحوا بوجود حزب الله«. وتتساءل »من هو حزب الله؟ بغض النظر عما يقال عن ارتباطات الحزب، إلا أن مكوناته هم أهل الجنوب وهو لم يخلق من العدم أو بالخطأ. ففي وضع خطر، على المرء أن يحارب كي يبقى حياً.. موجوداً. يجب أن يكون هناك سبب لجمع هؤلاء الذين يحاربون، والسبب هو عدو لديه إيديولوجيا يحارب على أساسها. ومن الضروري أن تخلق في مواجهته هيكلية تملك فكراً معيناً. حزب الله (كتنظيم) حاضر هناك منذ العام ،١٩٨٤ لكن أهل الجنوب في أرضهم منذ الأزل.. يصمدون. أعتقد أن الأمر يتخطى حزب الله. فهو يسمح لهؤلاء بأن يكونوا أكثر تنظيماً وأكثر فعالية في القتال، كما يجيب على حاجات أساسية من المفترض أن يؤمّنها غيره«.

الأرض: الأم الحاضنة

يأتي التمسك بالأرض، إلى جانب العقيدة، ليمنح ابن الجنوب القدرة على مواجهة الضغوط. وتؤكد الحسيني إن »العلاقة مع الأرض بالنسبة إليه، وهو المرتبط بأرضه، ليست كالعلاقة التي لدينا مع ما يحيط بنا. صحيح أن لدينا تعلّقاً بما يحيط بنا: منزل معين يصعب تركه مثلاً، لكننا في مرحلة معينة نتخلى عنه إذا تعرضنا إلى ضغط ما. أما بالنسبة إلى ابن الجنوب، فهناك علاقة دم مع تلك الأرض.. هذه الأرض هو يملكها، وقبله كان والده، وقبله جده، وقبله والد جده، إلخ... فيها يجد سلالة العائلة مجسدة. هو يعيش هناك ويزرع هناك ويأكل من هناك. حياته تتمحور حولها، وفيها يجد استمرارية لتاريخه. وانتزاعه منها يعني تنكّره لتاريخه«.

وتشرح الحسيني أن »هوية أهل الجنوب يظهّرها هذا الانتماء، خلافاً للفردية التي اكتسبها النازحون إلى المدينة والذين استثمروا في غير أرضهم. ووجود أهل الجنوب مبني على أساس مواجهة مع عدو يريد سلبهم هذه الأرض، يعني أن هويتهم متوقفة على هذا الأمر. من هنا، إذا قلنا له اليوم اترك أرضك، فهذا يعني أن ما واجهه وحارب من أجله كل حياته، وأهله من قبله، غير مبرَّر ولا يملك أسساً ثابتة. فكأننا ندفعه إلى إعادة النظر في صلاحية ما كوّن تاريخه«.

والأرض هي الأم بالنسبة إلى عساف: »فإلى جانب احتضانها الإنسان، هي تستقبله وتسكنه وتعطيه ثماراً، تماماً كالأم الحاضنة التي تؤمن الغذاء لطفلها. والتعلق بها يزداد عندما يشعر المرء بأنه من أجل المحافظة عليها، وكي تستمر هي في احتضانه، من واجبه الدفاع عنها. فإذا خسرها، وهو يعمل أساساً في الزراعة، يخسر مركز الحماية وكذلك لقمة العيش«. يضيف: »هناك أخذ وردّ مع الأرض. بقدر ما تهتم بها بقدر ما تعطيك مردوداً«.

ويلفت إلى أن ما قام به الإسرائيليون »كان أمراً ذكياً. فهم زرعوا تلك الأرض بالقنابل لتصبح مصدر موت وخطر بدلاً من الحياة. هم يعرفون مدى تعلق أهلها بها، فعمدوا إلى خلق شرخ بين هؤلاء وبين أرضهم«.

إعادة البناء: استقرار وطمأنينة

على هذه الأرض أيضاً يبني أهل الجنوب منازلهم. وهم يعيدون بناءها كلما تهدمت ولا يملون. توضح غناجه أن »إعادة البناء، مع المعرفة المسبقة بإمكانية تهدم المنزل من جديد، يمنح المرء شعوراً بالأمان. فهذا بيته وهو يمثل الأمان والطمأنينة بالنسبة إلى الإنسان. لذا هو مستعد لإعادة بنائه إلى الأبد، حتى ولو أيقن في كل مرة أنه سوف يهدم من جديد. هو بحاجة إلى الاستقرار. وما حدث عند انتهاء عدوان تموز خير دليل. فالنازحون حملوا أمتعتهم وعادوا إلى ديارهم خلال ٢٤ ساعة. ما من أحد كان يشعر بأن الأمور تسير بشكل جيد عندما كان مهجّراً. هنا نزوة الحياة هي التي تنتصر على نزوة الموت«. تضيف: »هذا هو الوضع بالنسبة إلى إنسان غير مضطرب. لكن عندما يكتئب الناس، تظهر الأفكار السوداوية وأفكار الموت«.

الحسيني أيضاً ترى أن الناس قد يستمرون في البناء إلى ما لا نهاية: »فمن الطبيعي أن يستمر في ذلك من عايش الاحتلال وصمد. هم عاجزون عن الوجود في محيط آخر«. والحسيني التي رافقت النازحين، أثناء تواجدهم في المراكز التي استقبلتهم في بيروت، تؤكد كيف كان هؤلاء »يفضلون نصب خيمة والبقاء في مكان لديهم فيه اسم وكيان ووجود. هنا، في المدينة، من هو؟ لا أحد. في المدارس كانت تأتي المتخصصة بعلم النفس لتتحدث معهم ويحضر المنشّط ليرفّه عن أطفالهم. هنا، كانوا مجرد أرقام على لائحة المهجرين، ولا شيء يحميهم سوى خيار شخص آخر. فإذا غابت المتخصصة التي تستمع إليه، وتوقفت المؤسسة التي تمنحه الغذاء، فإنه سيجد نفسه من دون سند. ولا يمكن لأحد أن يستمر في حالة من عدم الأمان«.

نزوة الحياة مقاوَمة للموت

لكن غناجه تلفت إلى أنه »ليس الجميع أقوياء ومتماسكين. هناك بعض المكتئبين أو العاجزين عن تخطّي خسارتهم. وبالتالي لا يمكننا القول بأن الجميع ينجح في »البقاء« (survie). وأنا أرى أن الناس متعبون منهكون وقد ضاقوا ذرعاً بما ينزل بهم«.

إلى جانب الأرض والعقيدة، ما الذي قد يجعل الصدمات أخف وطأة؟ يقول عساف إنه »في التحليل النفسي نركز على نزعة الحياة عند الإنسان بشكل عام. ولولا هذه النزعة هو لا يستمر. وعندما تقع صدمة نفسية ما، تواجه نزعة الموت نزعة الحياة، فيدخل المرء في حالة من الاكتئاب. لكنه ومن خلال دعم معين، متعدد الأشكال، قد يتمكن من المقاومة بمختلف أشكالها. هي مقاومة الموت والخسارة. والتحليل النفسي يحاول مساعدة المتضررين لإعادة تفعيل نزعة الحياة أو تغليبها على نزعة الموت والاكتئاب والتشتت النفسي (désinvestissement) وبالتالي الاستمرار في الحياة«.

يضيف: »في الأساطير، كي أبقى، يجب أن أقتل الخصم، وربما يكون الخصم متخيَّلاً، وهذا ما نجده اليوم في الأفلام الأميركية. فبعد مرحلة الحرب الباردة، تمّ خلق الكائنات الفضائية أو Alliens. وهذه هي الحال هنا: إما أن يقتلهم الإسرائيلي وإما أن يقتلوه. هذا شرط الاستمرار في الحياة«.

و»البقاء« يتطلّب قدرات عدة لمواجهة الصدمة والتأقلم مع ما وقع، وهذه القدرات تبنيها البيئة والعائلة طوال مراحل حياة المرء. فالطفل مثلاً يعتمد على محيطه، وتشرح غناجه أنه »إذا كان البالغون من حوله متماسكين، يسيطرون على قلقهم، وقادرين كذلك على التواصل معه، فسينجح الطفل في مواجهة الصدمة. أما إذا كان هذا المحيط هشاً، فسيصبح الطفل ضعيفاً بدوره. فهو لا وجود له خارج محيطه«.

ولتعريف الصدمة النفسية يقول عساف إنها »تأتي من حدث غير متوقع. عندما يقع، يكون غير مفهوم ويتخطى طاقة الفرد على »هضمه« وإدخاله إلى تركيبته النفسية. فيبقى كجسم غريب، يترجم نفسه بأعراض الأرق والاكتئاب والوهن وفقدان الرغبة في الحياة، وعند الأطفال يظهّر الحركة الزائدة والتبوّل اللاإرادي وغيرها من العوارض. عند الصغار تأتي غالبية المشاكل على شكل أعراض جسدية (psychosomatiques). والأعراض دليل على وجود أمور غير محلولة، ويفترض تنفيسها. من هنا يكون هدفنا الأساسي هو التدخل ومساعدة »المصدوم« (traumatisé) للتعبير عن تلك الأمور بأساليب مختلفة. فيدخلها إلى ذاته لتصبح جزءاً من معاشه. وهذا يتم من خلال ترميز المعاش. هو يصوره ويرمّزه عند الحديث عنه، ويدخله في تسلسل تاريخي إلى أن يتقبله، على الرغم من صعوبته وقسوته. وما يحدث عند أهل الجنوب أن الصدمة، إلى جانب أعراضها، تعيد إحياء الصدمات الأخرى القديمة«.

حتى الهزّات!

لكن عساف لا يرى أن الجنوبيين يعانون من حالة اكتئاب عامة، »لو أن ذلك صحيح، لكنا لمسناه«.

أعتقد أن المشكلة الوحيدة التي سيتم تسجيلها هي الصعوبة التي يجدها البعض لدى التفكير في مشاريع بعيدة المدى. فالمرء مثلاً كان سيتردد بشكل أقل لو أنه سيؤسس لعمل ما في بيروت، بدلاً من صور. هناك عدم استقرار وعدم أمان«.

ويشرح، منطلقاً من تجربته في صور، أن »الأطفال، وبشكل خاص الصبيان، أصبحت طموحاتهم محددة أو حتى محدودة. نسأل الطفل: شو بدك تعمل لما تكبر؟ فيقول: بدي أحمل السلاح وحارب. هذا يقويه، لكنه لا يجعله يرى الخيارات الأخرى المتاحة، كأن يصبح طبيباً، أو رجل فكر من أجل مقاومة فكريّة، أو مهندساً للإعمار،... لا يمكننا إخراج الفرد من نطاقه ومحيطه، لكن الإضاءة على غير المقاومة المسلحة تساعد الأطفال أكثر. فالتعليم مثلاً لا يتناقض مع فكر المقاومة. هو ليس ضد ذلك التيار، ولا حتى خارج السياق«.

وهل ما زال الجنوبيون اليوم قادرين على المواجهة؟ تجيب غناجه بأن »الناس تعبوا. لا يمكن توقع نتائج منذ الآن، لكن الواقع دقيق«. وتتحدث عن الهزّات شبه اليومية في منطقة الجنوب والتي، كما يرجح الخبراء، تمهد لزلزال قد يأتي مدمّراً: »هذه نقطة يجدر التوقف عندها، إذ أنها تعيد تحريك كل ما حدث في الحرب. والفكرة تكمن في اللااستقرار، يُضاف إليه القلق. فهذه الهزات تأتي بشكل غير متوقع، تماماً كالحرب. وحالة ما هو غير متوقع، تؤثر سلباً على الحالة النفسية، لا بل هي عامل خطر عليها، إذ لا يمكن تنبيه المرء أو إخطاره مسبقاً«. وهل هذا يعني أن مجرد التفكير في ترك المنزل يخيف أهل الجنوب اليوم؟ تقول: »كل شيء مخيف، هو لا يعلم ماذا الذي يمكن فعله، بالإضافة إلى أنه لا شيء منظماً، فالجهات الرسمية المعنية غير مهيأة، في حال حدوث طارئ، كذلك لا أحد يعلم ما إذا كان الأمر سيحدث أم لا، ومتى؟«.

تضيف غناجه: »أتت حركة إعادة البناء حماسية بعد حرب تموز، ويعود ذلك، في جزء منه، إلى أن الجنوبيين ربحوا وانتصروا. لكن اليوم إذا ما أتى الزلزال ليهدم منازلهم، فهذه، بلا شك، كارثة كبرى«.

دراسات نفسية واجتماعية عديدة صدرت، وعن هيئات مختلفة، حول الواقع النفسي لأهل الجنوب بعد حرب تموز. لكن الحسيني تعتبر أن »الكلام هنا يبقى نظرياً في ما يتعلق بهؤلاء. وفي مواضيع كهذه، لا أعرف ما إذا كان هناك مكان للنظرية، لا أعرف ما إذا كان هناك من شيء باستثناء شهادة حية يُدلي بها من عانى، ولكل قصته. وهذه الشهادة الحية هي الوحيدة التي تعطي شيئاً ذا معنى. فكل ما يمكننا فعله هو أن نتخيل ونتحدث ونفكر ونحاول تطبيق نظريات على شيء، واقعه ويومياته أصعب بكثير مما يمكننا أن نتصور«. وتشدد على أن »ما اختبره هؤلاء في الحروب السابقة، والحرب الأخيرة، كان متعمّداً فيه حرق وتدمير كل شيء. كان متعمّداً تسميم أرضهم وتفخيخها. واليوم بعد عامين على العدوان الأخير، هم يواجهون خطراً كلما توجهوا إلى حقولهم. لكنهم يذهبون«.

تعليقات: