ما لا يعرفه جيل اليوم: الحياة تحت الاحتلال

دخل أهالي القرى المحرّرة والمحتلة سوياً (الأخبار)
دخل أهالي القرى المحرّرة والمحتلة سوياً (الأخبار)


22 عاماً مرّت على تحرير الجنوب، وما زالت الكثير من قصص الاحتلال المؤلمة عالقة في ذاكرة الجنوبيين، لا ينسونها، لأنها لشدة قسوتها ومراراتها، لا تُنتسى. هكذا ببساطة، وهم حين يروونها اليوم فإنما يرغبون في أن تبقى عبرة حول ضرورة المواجهة والمقاومة، وسذاجة مقولة "قوة لبنان في ضعفه"

فعلياً، كان الشريط الحدودي سجناً كبيراً. الدخول إليه والخروج منه، لا يمكن أن يحصلا من دون تصاريح يمنحها مسؤولو المعابر المشتركة بين القوات الإسرائيلية وبين العملاء، والتي شكّلت نقطة الفصل بين المناطق المحررة والمحتلة. حتى الآن، ما زالت كلمة "التصريح " تثير حنق الجنوبيين، نظراً إلى ما عانوه من إهانات وابتزازات ودفع مبالغ مادية للعملاء، لقاء الحصول على تلك الورقة التي كانت تخوّلهم الدخول إلى قراهم. تستذكر زينب عبدالله بحرقة، كيف أنها لم تتمكن من مرافقة أمها في أيامها الأخيرة، أو حتى المشاركة في دفنها، بسبب إغلاق المعابر، التي كانت تتحكّم في مواعيد فتحها وإغلاقها مزاجية العدو والعملاء. لم يشفع لزينب تعبها وإرهاق أولادها الصغار وانتظارهم الطويل عند المعبر، عادت خائبة، حالها كحال العديد من الجنوبيين الذين كانوا يعودون أدراجهم بعد يأسهم من تجاوز المعبر.


بثّ الرعب

لم يعش جنوبيو الشريط يوماً عادياً واحداً في زمن الاحتلال، بل عاشوا معاناة يومية في شتى الميادين والمجالات. رافقهم خطر القتل والاعتقال دائماً، أما أملاكهم وأرزاقهم، فكانت مستباحة دون حسيب أو رقيب. في الشريط، حتى السهر كان ممنوعاً، فمع مغيب الشمس، كان أبناء القرى الحدودية يلوذون إلى منازلهم، لا يخرجون منها خشية تعرضهم للاعتداء والملاحقة من قبل جنود الاحتلال والعملاء، لتتحوّل ساحات القرى وطرقاتها خلال الليل، الى أماكن شبه مهجورة، باستثناء تواجد العملاء وذويهم الذين كانوا يتمتعون بحرية التنقل. في موازاة ذلك، تقصّد الإسرائيليون وعملاؤهم بثّ أجواء الرعب في صفوف الجنوبيين، إما عبر انتهاك حرمات منازلهم والقيام بحملات تفتيش، بذريعة البحث عن المقاومين والسلاح، وهي حملات كانت أقرب الى عمليات السرقة والتخريب من كونها عمليات تفتيش اعتيادية، أو القيام بعمليات اعتقال جماعية، طاولت بمعظمها الشبان الذين رفضوا تجنيدهم في صفوف العملاء. وغالباً ما لجأ الشباب الجنوبي إلى الجبال الوعرة والأودية المتعرّجة، للهرب من الشريط والانتقال إلى المناطق المحررة، لكنّ عدداً كبيراً من محاولاتهم باء بالفشل، فزُجّ بهم في معتقل الخيام الشهير. غير أن أبشع أنواع الترهيب، تمثّل في سحل جثامين شهداء المقاومة، عبر ربطها بالآليات العائدة للعملاء والتجوّل بها بين القرى، في محاولة لكسر عزيمة الجنوبيين، وإظهار قوة العدو الزائفة.


إجراءات انتقامية

يصعب أن تجد شخصاً عاش في قرى الشريط، دون أن تكون له أو لمعارفه قصة مؤلمة مع العدو. في جعبة أم علي حمود، وهي ممن بقوا في الشريط أثناء الاحتلال، الكثير من الحكايات الموجعة. تشير إلى منزل جيرانها، وتروي قصتهم، عندما تقدّم أحد أبرز عملاء المنطقة للزواج من ابنتهم الشابة، التي كانت حينها لا تزال تتابع تحصيلها العلمي، ليأتيه الرفض القاطع منها ومن أسرتها، ما دفع العميل ومجموعته إلى بدء مسلسل الابتزاز والضغوط تجاههم، وصولاً إلى ضرب الوالد واعتقاله أسابيع عديدة، عندها قرّرت الأسرة ترك أعمالها ودراستها، والنزوح نحو بيروت. تذكر أم علي أن أكثر ما كان يقلقهم هو غياب الرادع الأخلاقي والديني لدى العملاء. تقول بلكنتها الجنوبية: "اللي ما بخفش من الله، خاف منه".

مدنيون كُثر سقطوا في سياراتهم وذنبهم الوحيد أنه لم يكن معهم رفيق يجلس بجانبهم


شروط قيادة السيارات

أثناء الاحتلال، لم يكن مسموحاً لسائق السيارة أن يقود سيارته بمفرده، تحت طائلة إطلاق النار عليه. شهداء مدنيون عدة سقطوا في سياراتهم، وذنبهم الوحيد أنه لم يكن معهم رفيق يجلس بجانبهم. في هذا السياق يروي محمد حجازي، كيف تفاجأ بحاجز إسرائيلي، عندما كان يقود سيارته بمفرده بعدما أوصل رفيقه إلى منزله، ليعاجله عناصر الحاجز برصاصات مرّت بجانبه واخترقت الزجاج الأمامي. وبعدما ترجّل من سيارته رافعاً يديه إلى الأعلى، انهال عليه العناصر بالضرب والشتائم، قبل أن يصادروا مفتاح السيارة ويرموه نحو حقل ألغام مجاور. يصف حجازي تجربته تلك بالأسوأ، إذ سبّبت له ألماً جسدياً ونفسياً لفترة غير قصيرة.

أمّا من كان يعاني عارضاً صحياً، يستوجب نقله إلى المستشفيات القليلة في المنطقة، فكان على ذويه تأمين سيارتين ترافقانه، كي لا يتعرّض لإطلاق نار من مواقع الإسرائيليين وحواجزهم، وخاصة أن القيادة المسرعة تزيد من مخاطر التعرض لها.


العزل عن العالم الخارجي

كما حاول الإسرائيليون جاهداً، عزل أهالي الشريط عن العالم الخارجي فوسائل الإعلام الداعمة للمقاومة، كانت بطبيعة الحال ممنوعة من الدخول، ومن يحاول تهريبها يعرّض نفسه للتعذيب والاعتقال، في حين سُمح بدخول بعض الصحف الورقية التي كانت تدّعي الحياد إزاء الصراع. كذلك عمد الإسرائيليون في أواخر تسعينيات القرن الماضي، إلى مصادرة الأجهزة الخلوية العائدة للسكان الذين دفعوا مبالغ كبيرة لامتلاكها في ذلك الوقت، بحجة الدواعي الأمنية.

أما البضائع التي كانت تصل من خارج الشريط، فكانت تنتظر أياماً قبل دخولها، وفق إجراءات عدة، فعلى سبيل المثال يُمنع إفراغ «نقلات» الرمل والبحص من دون إشراف العملاء. وفي هذا الإطار، يشرح عبد الكريم قاروط، الصعوبات التي كانت ترافق إدخال بضاعته إلى بلدته الحدودية، إذ يروي كيف جرى إنزال بضاعته من الشاحنة المليئة بالمواد البلاستيكية على المعبر، للتأكد من خلوّها من الأسلحة، ليغادر المعبر، قبل أن يتم توقيفه على حاجز ثانٍ، ويطلب منه مرة جديدة أن يفرغ الشاحنة، رغم تأكد العملاء من سلامتها، وبعدما أنزل البضاعة ثانية، لم يتكبّد العملاء عناء التفتيش، بل عملوا على مصادرة بعضها في عملية سرقة وقحة.


المقاومة هي الحلّ

ولم يكن أبناء الشريط وحدهم من دفع ثمن الاحتلال، فالقرى المحاذية للشريط كانت تتعرّض بشكل دائم للقصف، ما خلّف عدداً كبيراً من الشهداء والجرحى. أثناء التحرير في عام 2000، تعاون أهالي تلك القرى مع أهالي الشريط من أجل دخول القرى المحتلة، وتأكيد التحرير، وإعلان انتهاء حقبة المعابر والحواجز والاحتلال، وعودة الجنوب واحداً موحّداً.

بعد 22 عاماً على التحرير، تغيّر الجنوب كثيراً، إذ عرفت المدن والبلدات الجنوبية ازدياداً سكانياً وتطوّراً عمرانياً، حتى أساليب الحياة وأنماطها اختلفت. وحدها المقاومة بقيت من الثوابت التي لم تتزحزح. حين تسأل الجنوبيين عن سبب تمسّكهم بالمقاومة، يجيبون بشكل واضح: لأننا سئمنا الموت والظلم، لأننا لن نقبل بالاحتلال مجدداً، لأننا نريد العيش بسلام، ولأننا نحب الحياة، نتمسّك بالمقاومة.

تعليقات: