انتخابات 1960
في الأول من أيلول 1920، وقف الجنرال جورج بيكو في باحة قصر الصنوبر، وسط البطريرك الياس الحويك، ومفتي بيروت الشيخ مصطفى نجا، وأعلن في خطاب طويل قيام "لبنان الكبير" أمام أعيان البلاد. في مطلع العام 1922، دعت سلطة الانتداب إلى انتخاب مجلس نواب خاص بالدولة الوليدة، وذلك تبعاً لتوزيع مناطقي طوائفي استُحدث لهذا الغرض. ضمّ أول مجلس للنواب ثلاثين نائباً: عشرة عن الموارنة، ستّة عن السنّة، خمسة عن الشيعة، أربعة من الروم الأرثوذكس، اثنان من الكاثوليك، واحد من الأقليات. ووصفت صحيفة "المعرض" هذا المجلس بـ"مجلس الطوائف"، وقالت في تعليقها: "تتألّف المجالس في العالم من أحزاب، أمّا مجلسنا فيتألّف من الطوائف. إذن فطوائفنا هي أحزابنا هذه، ولا يعجَب القراء إذا أطلقنا اسم الحزبية على مندوب كل طائفة عندنا".
في أيار 1926، أُقرّ الدستور اللبناني، وأعلن قيام الجمهورية اللبنانية، فكانت بذلك أول جمهورية في الوطن العربي. استقلّت هذه الجمهورية في 22 تشرين الثاني 1943، واكتمل استقلالها بانسحاب القوات الفرنسية منها في خريف 1946. حافظت هذه الجمهورية على الطابع الطائفي بثبات في عهد الانتداب، كما حافظت عليه عند استقلالها، رغم اعتراض الكثير من الأقلام البارزة، وتحوّلت الطائفية إلى لازمة من لوازم الحياة السياسية في لبنان. بين عهد وعهد، تمّ تعديل القانون الانتخابي، وتضاعف عدد النواب، غير أن الأساس الطائفي بقي ثابتاً لا يتزحزح. في خريف 1952، تطرّق سعيد فريحة إلى هذه التعديلات، ورأى أن القانون الجديد ما زال "يوزع الدوائر على أساس طائفي، فهنا سنّي، وهناك ماروني، وهناك شيعي، أو درزي، أو أرثوذكسي، أو كاثوليكي أو أرمني كاثوليكي، أو أرمني أرثوذكسي، أو الأقلياتي نسبة إلى الأقليات، إن لكل واحد منهم طائفته وأرضه الحرام في العاصمة والجبل وسائر المناطق اللبنانية". اعتبر الكاتب أن هذا القانون يعكس الواقع اللبناني، وقال: "أعتقد لو أن الدوائر وُزّعت على أساس غير طائفي لما تبدلت الحال كثيراً، ولانتخبت كل طائفة نوابها دون سواهم، لأن فضيلة العزلة أو الانكماش، سمِّها كما شئت، جعلت كل طائفة من طوائف هذا الوطن تعتصم بمناطقها وتستقل بأحيائها".
يعود هذا الحديث إلى زمن رئاسة كميل شمعون، ويبدو أن الحال لم تتبدّل في زمن رئاسة فؤاد شهاب، حيث اقتصر التعديل على تقسيم الدوائر وتضاعف عدد النواب. في عهد شارل حلو، وصل عدد النواب إلى تسعة وتسعين. وفي نهاية 1966، كتب داوود الصايغ في "الأسبوع العربي" مقالة طويلة تطرق فيها إلى تاريخ المجلس النيابي وتطوّره، وتساءل في مقدمّتها: "انتخاب مجلس جديد هو العملية الديموقراطية الرئيسية التي تميّز نظام لبنان السياسي، وتطبع أنظمته الأخرى، بالطابع الذي عرفت به حتى الآن. لكن تلك العملية الديموقراطية هذه، مشوبة بالكثير من المعطلات اللاديموقراطية، وبالرواسب العديدة التي عُرفت بها الأوضاع السياسية في لبنان. فهل يتم اصلاح الحياة السياسية عن طريق اصلاح الحياة الانتخابية، وهل يغني قانون انتخابي جديد عن سائر الإصلاحات الأخرى، وماذا سيتضمّن؟".
رأى الكاتب أنّ الخلل في النظام اللبناني "يرتبط بتاريخ منشأ التكوين الاجتماعي والبشري للبنان، وبالظروف السياسية الداخلية والخارجية التي رافقت تأليفه القديم والحديث، من عهد الحاكم التركي، إلى الانتداب الفرنسي، ومن ذيول الأنظمة التي توالت عليه، من نظام القائمقاميتين إلى المتصرفية، إلى لبنان الكبير، إلى تنظيمات 1920 و1922، إلى دستور 1926، وإلى عهد 1943 والميثاق الوطني. وإلى العلل والثغرات التي برزت على طول العهد الاستقلالي حتى الآن، وطبعت الحياة السياسية في لبنان بطابع الجمود، وأبقت على قيود النيابية، التي تقيّدت بها منذ بدء عهدها". بحسب الباحث، "نشأ في لبنان نظام خاص، هو مزيج من مجلس 1860 الذي أنشأه نظام المتصرفية، وبرلمانية الجمهورية الفرنسية الثالثة التي استوحي منها نظام 1926. هذان المصدران، أو بالأحرى المصدر الأول الذي أسس التمثيل الطائفي، ما زال قاعدة الحياة البرلمانية الأولى في لبنان، والذي تكرّس رسمياً بالدستور والميثاق. ولعله بسبب ذلك، قد يجوز القول إننا، في مجال التمثيل والديموقراطية، ما زلنا عند 1860، لأن الديموقراطية، كما يحرص المحامي عبد الله لحود أن يحددها، لا تهضم الطائفية، وتفرض حتى تستقيم وتسلم، إسقاط الاعتبارات الطائفية وهدم حواجزها. فديموقراطيتنا إذن، وهي في مفهومها الإغريقي الأصيل، حكم الشعب بالشعب، أو بالإنابة والنيابة على مفاهيم فلاسفة القرن الثامن عشر، هي مشوبة عندنا، مشوهة، فالتمثيل عندنا تمثيل أقليّات، بعيد عن الشمول والإرادة العامة المشتركة".
يقر الجميع بأن هذا النظام الانتخابي "مشوب، وشوائبه عديدة ومتنوعة"، غير أن الآراء تختلف في كيفية إصلاح هذا النظام. "هل يمكن لسلطة تنفيذية قوية أن تنبثق من النظام الساسي الحالي؟ وإذا كان أمر تعديل الدستور لجهة احداث النظام الرئاسي صعباً، وإنشاء الأحزاب السياسية بمعناها الصحيح متعذّراً، ضمن الإطار الطائفي المعروف، فهل يمكن إحداث لوائح انتخابية تحل محل الأحزاب، على نحو ما يقترحه شارل رزق في أطروحته حول نظام لبنان السياسي، أو إحداث دائرة انتخابية واحدة على نحو ما يراه البعض مثل بيار إده، أو اعتماد الاقتراع المحدود كما يقترح أنور الخطيب؟ لكن هل يكفي أن نغيّر قانون الانتخاب حتى تستقيم الحياة السياسة؟ أليس قانون الانتخاب مرتبطاً بالأهداف السياسية العامة للدولة، وأنه لا يوضع ولا يعدل على مستوى تجريدي، بل للتجاوب مع الأهداف، كما يقول حسن صعب؟ ثم هل تستطيع القوانين، مهما كانت متقنة، أن تصلح الشعب وتزيل جذور الداء الذي يكمن في الطائفية المتعصبة والرأسمالية الجشعة، كما يرى إدمون رباط؟".
يعود داوود الصايغ إلى دراسة وضعتها إحدى أجهزة الدولة في 1963، "تبين أن التيار الطائفي يشكل نسبة 20 بالمئة من هذه المؤثرات، والمال نسبة 30 إلى 50 بالمئة منها، والعائلية نسبة 10 إلى 15 بالمئة، وضغط الدولة نسبة 15 إلى 35 بالمئة، وشخصية المرشح لا تتجاوز نسبة 15 بالمئة". ويسأل من جديد: "ماذا حققت القوانين الانتخابية حتى الآن في سبيل خفض بعض النسب السيئة، ورفع نسب المؤثرات السليمة التي تؤمن حسن الاختيار؟". ثم يخلص إلى القول بأن "قانون الانتخاب اللبناني يجسد الدكاكينية والطائفية والاقطاعية والعشائرية".
في نهاية 1966 كذلك، بدأ غريغوار حداد مسيرته "العلمانية"، وكان يومها أسقفاً معاوناً للمطران فيلبس نبعة. في منتدى النادي الرياضي لدير القمر، تحدّث "رجل الدين" عن "الطائفية والحركة الاجتماعية"، كما نقلت "الأسبوع العربي"، و"باشر محاضرته بتجديد المفاهيم الثلاثة الأساسية التي يدور عليها المفهوم الطائفي: ما هي الطائفة، وما هو المعتقد، وما هو الدين". رأى الأسقف "أن تعايش طوائف عديدة على أرض واحدة أمر لا يخلو من المشكلات، لكنه ليس مستحيلاً، بل لا يخلو من الفوائد. وعلى الصعيد اللبناني، ينبغي لنا أولاً أنّ نقر بوجود المشكلة، وألا نيأس من حلّها".
انتخابات 1966
روزي شعيب رئيسة منتدى النادي الرياضي لدير القنر، تقدّم المطران غريغوار حداد عند القاء مجاضرته عام 1966
المطران غريغوار حداد عند القاء مجاضرته في منتدى النادي الرياضي لدير القنر
تعليقات: