تقول سيدة طرابلسية: أمشي كالتائهين، وأجد نفسي غير قادرة على شراء البطاطا لأولادي (جنى الدهيبي)
عند دوار نهر أبو علي في طرابلس، تتكثف ملامح اليأس والقلق على وجوه العابرين إلى جهات مختلفة من المدينة وضواحيها وصولًا إلى عكار. فالدوار هو المكان المركزي للباحثين عن لقمة عيشهم بأثمانٍ ما دون الغلاء الفاحش، في أسواق الخضار التي تبيع بالمفرق بأسعار الجملة، وعند البسطات التي تنتشر عشوائيًا على أطراف النهر.
حوادث الدوار
تدمع عينا سيدة مسنة أثناء تحديقها بحبّات الجنارك والكرز وتقول: "حرمونا أكل الفواكه". وكان هذا الدوار شهد قبل نحو شهر واحد تشييع جثامين ضحايا قارب الموت الذي ما زال غارقًا في البحر بعمق يتجاوز 400 متر، وفيه ما لا يقل عن 23 جثة، معظمهم من النساء والأطفال متروكين بلا اكتراث من الجهات الحكومية. وشهد الدوار قبل نحو 9 سنوات تفجير مسجد التقوى الذي تلطخ بدماء عشرات المصلين والعابرين، بتدبير إجرامي من النظام السوري وأزلامه اللبنانيين. وقبلها كان مكانًا لعمليات وأصداء معارك دامية بين جبل محسن وباب التبانة، بدفع تآمري من معظم قيادات المدينة وبعض مشايخها. أولئك الذين استثمروا فيها بالسلاح والفتنة الطائفية والسياسية والأمنية، قبل أن يتبرأوا من مئات الشبان ويزجوهم في السجون تحت مسمى "الموقوفين الإسلاميين".
هنا، تتقاطع السياسة بالأمن والاقتصاد والفقر والانحلال والغياب التاريخي للدولة. ويبدو الحاضر امتدادًا للماضي، فيما تطفو على سطح النهر أكوام النفايات التي تتكدس أيضًا في مشروع "الإرث الثقافي" الذي أضحى نكبة جغرافية للمدينة. أما جدران الأبنية حول الدوار فمتهالكة ومنخورة بالرصاص، وتتزاحم عليها صور نواب وسياسيين وزعماء لا يعرفون عن معاناة أهل المدينة شيئًا.
كابوس الدولار
ومع تجاوز الدولار عتبة 35 ألف ليرة، تتهافت مئات النسوة والرجال إلى الأسواق لشراء ما تيسر من خضار وحبوب، في ظل فوضى عارمة وجشع التجار الذين يسعِّرون عشوائيًا بلا رقيب. تقول أم محمود لـ"المدن": "أمشي كالتائهين، وأجد نفسي غير قادرة على شراء البطاطا لأولادي بعد أن تجاوز سعر الكيلو 18 ألف ليرة، وكيلو البندورة أكثر من 30 ألفاً، وصرنا عاجزين عن شراء قارورة غاز ناهز ثمنها 500 ألف ليرة".
في ساحة التل بطرابلس، يبدو مشهد الناس مشابهًا، بيأسهم وحيرتهم، ويتفاقم اضطرابهم عند محال الصيرفة التي يتوجه نحوها العشرات، إما سائلين عن سعر صرف الدولار، وإما لصرف ما لديهم من بضع دولارات لشراء حاجاتهم في سباق محموم مع ارتفاع الأسعار. يقول أحد المواطنين لـ"المدن": "يرسل ابني لنا 100 دولار شهريًا، كانت تساندنا بتسديد فواتيرنا وشراء قوتنا، لكنها اليوم لا تكفي لدفع فاتورة المولد".
ويقول أحد الصرافين: "يتهافت الناس للسؤال عن سعر الصرف، بعضهم يتريث قبل بيع دولاراته بانتظار ارتفاع سعرها في ساعات متقدمة من النهار، لكن المشكلة أن الأفق ضبابي، ويمكن أن يسجل الدولار انخفاضًا مماثلًا، إذ تجاوز قبل أشهر عتبة 30 ألف ليرة".
في المناطق الشعبية الطرابلسية، تتفاقم هموم السكان على أعتاب نهاية شهر أيار، ويترقبون جميعًا بريبة كحال جميع اللبنانيين تسعيرة المولدات الكهربائية، التي تتجاوز أضعاف الحد الأدنى للأجور بحجة ارتفاع أسعار المحروقات، فيما ينقطع التيار الكهربائي عن منازلهم على مدار 24 ساعة، بسبب توقف معمل دير عمار عن التغذية لساعتين.
ما بعد الانتخابات
وطوت طرابلس مرحلة الانتخابات التي تؤسس لإحباط عارم، إن لجهة ضياع التمثيل السياسي وهشاشة الخطاب وغياب البرنامج الواضح من قبل النواب المنتخبين. أو لجهة تعاظم الانهيار الاقتصادي بوتيرة سريعة غير مسبوقة، فيما تغيب كليًا معظم المساعدات الاجتماعية التي تكاثرت خلال فترة الانتخابات كأداة للرشى وشراء الأصوات.
على مستوى آخر، دخلت قضية غرق قارب المهاجرين غير النظاميين مرحلة الغيبوبة، قضائيًا وإجرائيًا. وسبق أن أعلن النائب أشرف ريفي عن مساعٍ يقوم بها مع جهات خارجية مختصصة لإرسال غواصة تساعد في انتشال القارب. لكن معلومات تشير إلى أن آمال انتشال القارب من قعر البحر تتضاءل، بسبب عدم تلقي لبنان أي مساعدة جدية خارجية في هذا الشأن، نظرًا لتكاليفها الباهظة، مع التذكير بأن الإمكانيات المحلية المحدودة لا تسمح بانتشاله.
ويتحدث مصدر أمني لـ"المدن" عن معطيات حول إمكانية أن تشهد بعض المناطق -وفي طليعتها طرابلس ومحيطها نظرًا لمستوى الفقر المستشري فيها- تداعيات ميدانية تنذر بتفاقم الفوضى أمنيًا، إذا استمر تدهور الليرة وما يرافقه من انهيارات معيشية، قد تدفع اللبنانيين نحو الانفجار الاجتماعي.
تعليقات: