الكثير من التحريض بين البلدات المتجاورة المتنازعة على القليل من الكهرباء والماء (الأرشيف)
يعيش البقاع على شفير انفجار اجتماعي، يهدد به شح الموارد الخدماتية المؤمنة من الدولة، وغياب العدالة في توزيعها. هذا الكلام ليس تهويلاً، وإنما قراءة في سلسلة تطورات، كادت تفجر الفتن على أكثر من جبهة بقاعاً، فنجحت المساعي بكبتها مرحلياً، ولكن لهيبها لا يزال يعسّ تحت الرماد.
اعتصامات متكررة
فمن بلدة عنجر في قضاء زحلة، التي تداعى شبان من قرى مجاورة لها إلى اعتصام على مداخلها، على خلفية العطش الذي تسبب به توقف ضخ مياه نبع شمسين التي تنبع من البلدة، إثر إنعدام التغذية الكهربائية عن محطاتها.. إلى تكرر الاعتصامات في قرى البقاع الغربي الواقعة شرقي نهر الليطاني احتجاجاً على ما وصف بانعدام العدالة في توزيع الطاقة التي يولدها معمل عبد العال الكهرومائي.. تبدو الفتنة مترصدة على الأبواب، ويسهم بإشعالها بعض الكلام غير المسؤول عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والذي يشارك فيه أحياناً أيضاً من يفترض أنهم في مواقع المسؤولية.
صحيح أن ما يجري في أكثر من منطقة بقاعية، هو نتيجة للقلة التي لا بد أن توّلد النقار، إلا أن خطورة الأمر تكمن في ما يرافق هذا "النقار" من تأجيج للخطاب الطائفي، بظل نقص بالمعلومات لدى عامة المتضررين، ما يسهل الاستثمار بغضب الناس، لتحويله عن الجهة التي تستحق أن يفجَّر بوجهه، وفي طليعتها من يتسلمون زمام الدولة ومؤسساتها، فتتحول حقوق البعض المؤمنة، ولو بالحد الأدنى، تهمة تتلبسهم بحرمانها للبعض الآخر.
رصاص وتحريض
فقبل أيام أطلق مجهولون النار على محولات للكهرباء في قرى عانا، عين زبدة، دير طحنيش، عميق، كفريا وخربة قنافار الواقعة غربي نهر الليطاني، مما أدى إلى قطع التيار عن القرى التي تتغذى من معمل عبد العال الكهرومائي، فتداعى رؤساء بلديات هذه القرى إلى اجتماع في بلدية خربة قنافار، حضره النائب شربل مارون، صدر بختامه بيان اعتبر أن إطلاق النار على سبع محولات في ست قرى، عمل تخريبي حاقد وجبان يهدف إلى فتنة بين أبناء المنطقة. وناشد القوى الأمنية ملاحقة الفاعلين والنيل منهم.
ذيول هذه الحادثة بدت امتداداً للصرخة التي ارتفعت ما قبل الانتخابات النيابية جراء إنعدام العدالة في توزيع الكهرباء بهذه المنطقة، وما رافقها من محاولة لاستغلال انتخابي، لم يتوان في استخدام التحريض الطائفي كوسيلة لكسب شارع بمقابل شارع، قبل أن يتحالف طرفي التحريض في لائحة واحدة لاحقاً.
بيان غاضب ونواب
التجاوب السريع مع إصلاح أعطال الاعتداء، بمقابل اعتقال المشتبه بهم في تعطيل الشبكة على الطرف الثاني من الليطاني، عزز شعوراً بالغبن لدى أبناء القرى المحرومة من الكهرباء، أحيا عبارة "غربية وشرقية" مجدداً، إنما على مقلب سهل البقاع هذه المرة. فتداعى شبان من أهالي "الشرقية" ولا سيما بلدات غزة وكامد اللوز وجب جنين إلى إعتصام نفذ قبل أيام، هنا ما جاء في نص البيان الذي دعا إليه: "تداعى بعض رؤساء بلديات الغربي لإدانة وشجب ما حصل من تعدٍ على بعض محولات كهرباء تابعة لقرى السلسلة الغربية .نعم يا سادة أدانوا وشجبوا واستنكروا هذا العمل الجبان كما أسموه !نعم يا سادة استنكروا وسوف نستنكر معكم. ولكن أليس الأجدى أن تستنكروا الجريمة الكبرى وعمليات الإبادة الجماعية التي تحصل لقرى كاملة، ولا مبرر ولا معيار لما يحصل إلا بسبب واحد لا غيره هو التمييز الطائفي. وأتحداكم أن تجدوا مبرراً واحداً غير هذا. اتهمونا بالطائفية وإن شئتم بالإرهاب كما تفعلون دائماً وبأغلب المحطات الفاصلة عندما يتعلق الأمر بحقوقنا. ولكن كل الوقائع والدلائل تدل على تمييز طائفي بحت يقوم به الآمر بأمر وزارة الطاقة المسخ الحاقد جبران باسيل".
ويكمل البيان: "حقنا هو العيش الكريم بالتساوي كما كافة القرى. حقنا بالتساوي بالكهرباء والمياه والطرقات. لن نرضى بعد الآن بفتات وعظام تلقونها لنا كأننا كلاب. لا تتلطوا بنغمة العيش المشترك. فالذين يبغون عيشاً مشتركاً لا يرضون العطش والجوع والموت لشركائهم وهم ينعمون بترف. كهرباء ومياه للجميع بالتساوي أو يصيبكم ما يصيبنا".
لم تكن الدعوة للاعتصام وحدها ما حمل هذا الخطاب، بل جاءت الكلمات التي تخللها لتثبت الشرخ الذي سيتسبب به انعدام العدالة في توزيع الكهرباء بهذه المنطقة. ما جعل النائب المنتخب ياسين ياسين، الذي شارك في الاعتصام، يؤكد رفض "الفتنة والعتمة" معاً. في وقت اعتبر النائب حسن مراد ببيان صادر عنه أنه "ليس مفهومًا هذا التمييز في توزيع الطاقة الكهربائية في البقاع الغربي وراشيا". وسأل "لماذا تغذى قرى في الجنوب من مركبا بشكل تام وتُحرم منها منطقتنا. وأي قانون يجيز ذلك؟". وتوجه مراد إلى "من يهمهم الأمر من الحلفاء وغير الحلفاء وللمعنيين بالملف، بأننا لن نقبل أن نبقى درجة ثانية في نيل الحقوق، ولن نقبل أن يرمى لنا فتات الفائض من الكهرباء، فنحن أصحاب الحق أولًا في كهرباء مركبا ولا نريد حصة أحد، بل نريد تحصيل حصة القرى المحرومة وتوزيع الطاقة بالتساوي".
حجب الحقيقة العلمية
في حماستهما الشعبوية التي جعلتهما يؤيدان مطلب منطقتهما في الناحية "الشرقية" للبقاع، لم يظهّر النائبان المنتخبان المعلومات العلمية لسبب انعدام هذ العدالة، والتي شرحها على مسامع من راجعوه حول الأزمة، مدير عام الليطاني سامي علوية، أكثر من مرة، مكرراً التوضيح بأن الحل المتاح لتأمين الكهرباء للقرى المربوطة بمحطة جب جنين يكون من خلال التزام مؤسسة كهرباء لبنان بالحل الذي سبق أن تم التوافق عليه، والذي بموجبه يتم تعذية محطة جب جنين من محطة عبد العال عبر خط 66 ك.ف، والذي تمت صيانته خلال العام الجاري وتركيب عامود جديد في سحمر.
علماً أن الإنتاج الحالي لمعامل الليطاني، كما أكد علوية، هو بحدود 90 ميغاوات، وان إنتاج المصلحة الوطنية لنهر الليطاني كاف لتعزيز التغذية لمحطة جب جنين وبالتالي البلدات المربوطة بها. وبإمكان مؤسسة كهرباء لبنان تحويل قسم من إنتاج الليطاني باتجاه محطة جب جنين، خصوصاً أن استهلاك القرى التي تتغذى منه حالياً لا يتجاوز 50 ميغاوات.
وتمسك علوية في اتصال مع "المدن"، بما كان قد حذّر منه سابقاً بأن "أي حمولة جديدة على محطات التوتر متوسط 15 ك.ف التابعة للمؤسسة والمربوطة بمعامل توليد الطاقة الكهرومائية التابعة للمصلحة، والتي تغذي قرى غرب الليطاني، سيؤدي إلى انقطاع التغذية الكهربائية عن قرى جزين والبقاع الغربي، وإلى مخاطر فنية تعرّض سلامة منشآت ومعامل توليد الطاقة الكهرومائية".
ومع ذلك لم تشف إجابات "الليطاني" أهالي القرى التي تريد الكهرباء فوراً، فكانت الدعوة الثانية للاعتصام يوم غد الأحد، بانتظار ما سيحمله التحرك من تطورات.
النبع والعطش بين عنجر ومجدلها
على المقلب الآخر وفي تداعيات لمشكلة لا تنفصل عن أزمة الكهرباء أيضاً، تداعت قبل يومين مجموعة من الشبان الذين يقيمون في برالياس ومجدل عنجر وغيرها من القرى المصنفة "سنّية"، إلى مداخل بلدة عنجر التي يسكنها الأرمن، متهمين بلديتها بتقصّد قطع المياه عن الجوار، من خلال عرقلة مشروع اقترحته مصلحة مياه شمسين لتركيب أجهزة توليد بالطاقة الشمسية، تسمح باستدامة ضخ المياه من نبع شمسين الذي تحتضنه عنجر والذي يؤمن المياه لنحو ستين بلدة بقاعية، يمثلون نسيج المجتمع اللبناني المتنوع.
هذه التداعيات جاءت مترافقة مع خطاب تصعيدي عبرت عنه بعض المنشورات عبر صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وتخللها الكثير من التحريض بين البلدات المتجاورة. ما استدعى بياناً توضيحياً من بلدية عنجر، أكدت فيه أنها تعاني من انقطاع المياه والكهرباء مثلها مثل سائر القرى المجاورة، وأنها لا تمانع تركيب تجهيزات توليد الطاقة الشمسية، إنما شرط أن يتم ذلك بالتنسيق مع مديرية الآثار، خصوصا أن المنطقة المقترحة لتركيبها تحتضن إرثاً حضارياً مكتشفاً. وأسفت البلدية لأن تحمل مسؤولية شح الموارد للبلدة وبلديتها، في وقت كانت هي من حافظ على صحة وسلامة نبع شمسين وحمته من التعديات، ولم تحرم أحداً من خيراته حتى في عز الحرب اللبنانية، كما أكد نائب رئيس بلدية عنجر، نظاريت انديكيان، في إتصال مع "المدن".
بيانات منمقة
استشعر المعنيون في الجوار في المقابل المنحى الخطير الذي حملته محاولات التحريض على عنجر وأهلها داخل بيئتهما، فكان بيان من رئيس بلدية مجدل عنجر الملاصقة لعنجر، ومنسق تيار المستقبل في البقاع، سعيد ياسين، أكد فيه أن أهالي مجدل عنجر وعنجر أهل وأحبة كانوا وسيبقون. داعياً لعدم الإنجرار خلف الأفعال التي تسيء للجيرة بين البلدتين.
نجحت البيانات في تهدئة التحركات، ولكنها لم تهدئ النفوس المشحونة وانفعالاتها، ولا أزالت عبارات التحريض التي استمرت عبر صفحات وسائل التواصل.
صحيح أن الكلمات المنمقة والتي تحفظ الود بين الجيران، لا تكفي وحدها للتخفيف من الضيق الذي يعانيه الجميع. ولكن لا شك أن هناك من يحاول أن يستغل هذا الضيق في زرع الفتنة بين اللبنانيين. فيما المسؤولون عن "القلة" التي لحقت باللبنانيين عموماً ماضون بتأجيج الكراهية، واللعب على أوتارها. ولما لا، طالما أنها كفيلة بتغذية مواقعهم وتعزيزها، ولا توجع رؤوسهم بأبسط حقوق الناس بالمياه والكهرباء، حتى لو أدى شح مواردها إلى تهافت كل طرف على تناتشها.
تعليقات: