قرار سلامة يعني أيضًا العودة إلى مرحلة حرق الدولارات من احتياطات مصرف لبنان (عباس سلمان)
بعد ظهر اليوم الأحد 29 أيار، بلغ سعر صرف الدولار في السوق الموازية حدود 27,700 ليرة، بعدما كان قد تجاوز قبل 48 ساعة فقط - أي بعد ظهر يوم الجمعة الماضي - عتبة 37,750 ليرة للدولار، في أعلى مستوى له مقابل الليرة اللبنانيّة على الإطلاق. وخلال 48 ساعة فقط، انخفض سعر الدولار في السوق الموازية نحو 10,050 ليرة دفعة واحدة، ليخسر نحو ثلث قيمته في السوق، مقابل الليرة في يومين.
وما جرى دليل على الفوضى والتذبذب السريع الذي تشهده السوق الموازية، وهامش الحركة الكبير لسعر الصرف الذي باتت تتحكّم به المضاربات الفوريّة، بمعزل عن عوامل العرض والطلب الموضوعيّة.
لا يحتاج المرء إلى كثير من التحليل ليفهم أسباب صعود سعر صرف الدولار السريع حتّى ساعات ما بعد ظهر يوم الجمعة الماضي، وهبوطه سريعًا.
عوامل متشابكة
ويمكن تلخيص ذلك في عوامل عدة تقاطعت خلال فترة زمنيّة قصيرة:
- تمرير استحقاق الانتخابات النيابيّة، وانتقال حكومة ميقاتي إلى مرحلة تصريف الأعمال. وهذا مثّل منعطفًا أساسيًا في مسار الأمور، لكون التفاهم الذي جرى في بداية السنة بين الحاكم ورئيس الحكومة قضى بتوسّع مصرف لبنان في ضخ الدولار لغاية تمرير الانتخابات النيابيّة وانتهاء مرحلة عمل الحكومة بصلاحيّاتها المكتملة. مع الإشارة إلى أنّ تبرير ميقاتي الأساسي تركّز على ضرورة إنجاز خطّة التعافي المالي قبل الانتخابات وتمرير التفاهم المبدئي مع صندوق النقد، في ظروف أمنيّة مستقرّة لا تشوبها شائبة.
- نضوب احتياطات المصرف المركزي وبلوغها مستويات حرجة، ما عنى تراجع قدرة الحاكم على التوسّع في تدخّله في سوق القطع، عبر ضخ الدولار بلا قيود كما جرى في البداية. ومن هنا أيضًا يمكن فهم بدء السوق الموازية بتسجيل ارتفاعات محدودة في سعر صرف الدولار، حتّى قبل تمرير استحقاق الانتخابات النيابيّة.
- عدم تعاون المصارف منذ أسابيع إزاء عمليّات بيع الدولار عبر المنصّة، بمعزل عن حجم الكوتا التي يخصصها المصرف المركزي لكل مصرف من هذه الدولارات. وهذه المسألة ارتبطت بدورها بالسجال الحاصل بين الحكومة والمصارف في ما يخص خطّة التعافي المالي، ومحاولة المصارف خلق أجواء نقديّة وماليّة ضاغطة على أعتاب مناقشة الخطّة في مجلس النوّاب. وهذا العامل بالتحديد، هو ما يفسّر تكرار الحاكم الإشارة إلى استمرار العمل بالمنصّة، في مقابل إشارة شريحة واسعة من التجّار إلى توقّف عمليّات المنصّة في معظم الفروع المصرفيّة.
- تقاطعت هذه العوامل مع ارتفاع الطلب على الدولار منذ أسابيع، نتيجة استمرار معدلات التضخّم العالميّة بالارتفاع، وارتفاع أسعار العديد من السلع الأساسيّة التي تستوردها البلاد. مع الإشارة إلى أن ارتفاع أسعار السلع، يعني بشكل بديهي ارتفاع كميّة الدولارات المطلوبة للاستيراد. ما يعني زيادة الضغط على عمليّات المنصّة وتقليص نسبة الطلب على الدولار الذي تتمكّن من تلبيته. وهذا التطوّر أدّى حكمًا إلى ارتفاع نسبة الطلب على الدولارات التي تذهب إلى السوق الموازية.
مضاربات في السوق السوداء
هكذا، تفاقمت الأزمة سريعًا وصولًا إلى المستويات المرتفعة التي بلغها سعر صرف الدولار بعد ظهر يوم الجمعة. وما أن صدر بيان حاكم مصرف لبنان في ذلك اليوم، داعيًا حملة الليرة اللبنانيّة إلى انتظار يوم الإثنين للتوجّه إلى الفروع المصرفيّة وشراء الدولار عبر المنصّة، حتّى سار سعر صرف الدولار في المسار المعاكس، وصولًا إلى المستوى الذي شهده اليوم.
المسألة الأكيدة هنا، هي أنّ أيًّا من الفروع المصرفيّة لم تقدم على إجراء أي عمليّة قطع منذ ما بعد ظهر يوم الجمعة، ما يعني أن ما جرى عمليًّا هو نتيجة عوامل مرتبطة بمضاربات السوق السوداء، لا عوامل العرض والطلب الفعليّة. وهذه المسألة بالتحديد تُظهر الهامش الكبير الذي تتحكّم بها المضاربات، إضافة إلى العوامل المتعلّقة بالطلب على الدولار لتمويل التجارة والاستيراد.
في كل الحالات، من الأكيد أنّ سوق القطع ستكون أمام لحظة مفصليّة صباح يوم الغد، الإثنين. وهي لحظة يُفترض أن تحدد مسار سعر صرف الدولار خلال الأيّام المقبلة.
عودة لحرق الاحتياطي؟
إذا أقدم مصرف لبنان بالفعل على العودة إلى مرحلة ضخ الدولار بلا سقوف، ولجميع المواطنين والمؤسسات الراغبين بشراء الدولار، فالنتيجة تكون العودة إلى سعر الصرف المضبوط عند هامش معيّن قريب من سعر المنصّة. لكن هذا القرار يعني أيضًا العودة إلى مرحلة حرق الدولارات من احتياطات مصرف لبنان، في انتظار استنفاد قدرة المصرف المركزي على التدخّل كليًّا، ومن ثم العودة إلى مرحلة ارتفاع سعر الصرف في السوق الموازية، كما جرى قبل يوم الجمعة.
أمّا إذا كان التعميم مجرّد طلقة في الهواء، أي إذا فتحت سوق القطع يوم الإثنين من دون أن تفتح المصارف عمليّات المنصّة أمام جميع عمليّات الطلب على الدولار، فمن الأكيد أن السوق ستشهد خلال الأيام القليلة المقبلة عودة إلى ارتفاعات سعر صرف الدولار المتدرجة. مع الإشارة إلى أن حصول هذا السيناريو غير مستبعد. فالحاكم أعلن في محطّات عدة سابقة استمراره ببيع الدولار بلا سقوف عبر المنصّة، فيما استمرّت الفروع المصرفيّة بحصر عمليّات المنصّة بشريحة ضيّقة من المستوردين.
أمّا المتغيّر الأساسي في هذه المعادلة، فهو المصارف نفسها، التي لم يتبيّن بعد مدى استعدادها للتعاون مع جميع الإجراءات النقديّة التي يقوم الحاكم بالتخطيط لها، في ظل الحرب المفتوحة التي تخوضها مع الحكومة والحاكم معًا، على خلفيّة خطّة التعافي المالي. ببساطة، بإمكان المصارف أن تستمرّ طوال الفترة المقبلة بعرقلة عمليّات المنصّة، من خلال تأخير الموافقات على عمليّات بيع الدولار التي تجري من خلالها، بحجج بيروقراطيّة مختلفة. وهذا ما حدث بالفعل خلال الفترة الماضية.
تعليقات: