لعب سلامة أدواراً مثيرة للريبة (علي علوش)
كثيرة هي التفاصيل التي كشفتها دراسة "عمليّة البيع العظيم"، التي نشرها مركز "تراينغل" للأبحاث والسياسات العامّة والإعلام، في ما يتعلّق بخبايا ألاعيب المصارف التي جرت قبل وبعد تخلّف لبنان عن سداد سندات اليوروبوند (سندات الدين العام بالعملات الأجنبيّة). وبعد أن نقلت "المدن" عن الدراسة في مقالة سابقة تفاصيل هذه العمليّات الاحتياليّة، التي هدفت إلى تهريب سيولة المصارف تحت ستار بيع سندات اليوروبوند، تتابع "المدن" اليوم نشر تفاصيل إضافيّة مثيرة، وخصوصًا في ما يتعلّق بالأدوار التي لعبها سياسيون ومسؤولون ماليّون بارزون في تلك العمليّات.
سلامة يرتعب من فكرة إعادة الجدولة
كما شرحنا في المقالة السابقة، لم يستمع وزير الماليّة علي حسن خليل في بداية العام 2019 إلى توصية مستشاره طلال سلمان، الذي نصح يومها بالشروع في عمليّة إعادة هيكلة منظّمة وهادئة للدين العام بأسره، لتفادي الدخول في مرحلة التعثّر لاحقًا. بل وعلى العكس تمامًا، فجّر خليل الأمور في تلك المرحلة بتصريحات متسّرعة أثارت ذعر الأسواق الماليّة، مما أطلق عنان عمليّات بيع سندات اليوروبوند التي قامت بها المصارف منذ بداية العام 2019. وبغياب تدخّل مصرف لبنان، تحولت عمليّات بيع سندات اليوروبوند إلى حيلة اعتمدتها المصارف لتهريب سيولتها باتجاه الخارج.
بعد نحو 10 أشهر من تلقي وزير الماليّة علي حسن خليل توصية إعادة الهيكلة من مستشاره طلال سلمان، وعدم تنفيذها، التقى سلمان بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة في 18 تشرين الأوّل 2019، على هامش اجتماعات صندوق النقد الدولي في واشنطن. سلمان، وبعد أن فقد الأمل بإعادة هيكلة الدين بأسره، أبلغ رياض سلامة في ذلك الوقت أن لبنان لا يُفترض أن يبادر إلى سداد سندات اليوروبوند التي تستحق في شهر تشرين الثاني 2019، والتي تبلغ قيمتها نحو 1.5 مليار دولار، بل يُفترض أن تقوم الدولة بالتفاهم مع الدائنين على إعادة جدولة هذه السندات (الاتفاق على موعد جديد لدفعها).
ومن الناحية العمليّة، كان من المفترض أن يكون تنفيذ هذا الإجراء مسألة سهلة، طالما أنّ مصرف لبنان والمصارف المحليّة يمتلكان معًا أكثر من 66% من قيمة هذه السندات، ما يمنحهما ما يكفي من أصوات لتمرير التفاهم مع الدولة اللبنانيّة على إعادة الجدولة. وهكذا، كان بإمكان مقترح سلمان أن يفضي إلى تمرير هادئ للاستحقاق، من دون تبديد ما تبقى من دولارات في مصرف لبنان لتسديدها، ومن دون إعلان تعثّر الدولة.
المفاجأة كانت في ردّ فعل حاكم مصرف لبنان، الذي كان يُفترض أن يحمل أولويّة حماية الاحتياطات المتبقية لدى المصرف المركزي، والحؤول دون استعمالها من قبل الدولة عبر اقتراضها لسداد سندات اليوروبوند. وبدل أن يتحمّس لمقترح طلال سلمان، الذي يحمي هذه الاحتياطات، من دون أن يعلن الامتناع عن الدفع بشكل صريح، "ارتعب" سلامة من مقترح سلمان، وبادر إلى السؤال فورًا: هل حصلت على دعم نبيه برّي وسعد الحريري لهذا المقترح؟ وبينما بدا أن حاكم مصرف لبنان يحاول التملّص من هذه العمليّة بسؤاله، أجابه سلمان فورًا: نعم، حصلت على ذلك.
لم يملك سلامة إذًا –ولأسباب يصعب فهمها- الحماسة للشروع بهذه العمليّة، رغم أنّ موقعه يفرض عليه تلقائيًّا دعم هذه الفكرة. ولذلك، تهرّب سلامة فورًا من النقاش، حتّى بعد أن تأكد من دعم الحريري وبرّي لفكرة إعادة جدولة "استحقاق تشرين الثاني 2019"، فطلب إرجاء البحث في الموضوع للقيام ببعض الاستشارات بعد العودة إلى بيروت. وحين عاد الرجلان –سلامة وسلمان- إلى بيروت، كانت ثورة 17 تشرين الأوّل قد اندلعت في الشوارع، وباتت الأزمة المصرفيّة مشرّعة على جميع الاحتمالات.
ما الذي دفع سلامة في تلك المرحلة إلى التملّص من عمليّة إعادة الجدولة؟ هل ارتبطت المسألة ببعض مضاربات سوق السندات؟ هل ثمّة من اشترى سندات تستحق بهذا التاريخ، وبأسعار زهيدة نظرًا لارتفاع مخاطر لبنان الماليّة في ذلك الوقت، لعلمه أن حكومة الحريري ستُسدد هذه السندات لاحقًا، رغم صعوبة المرحلة؟ لا يمكن الجزم بالإجابة الحقيقيّة. لكن ما جرى لاحقًا يدفع المراقب إلى الارتياب من سلوك سلامة وبرّي والحريري معًا.
تسديد استحقاق تشرين الثاني 2019
في 27 تشرين الثاني 2019، كان قد مضى نحو شهر وعشرة أيام على حصول الانهيار المصرفي الصريح، ما عنى فقدان النظام المالي القدرة على استقطاب الدولارات من الخارج، بانتظار معالجة فجوة الخسائر التي انكشفت. وفي ذلك الوقت أيضًا، كان من الواضح أن الدولة تعاني منذ أكثر من سنتين من فقدان القدرة على بيع سندات جديدة في أسواق الدين العالميّة، ما يعني عمليًّا فقدانها القدرة على الاقتراض من السوق لسداد الديون القائمة. باختصار: أي عمليّة سداد لأي استحقاق، لن تعني سوى تبديد مجّاني للدولارات، التي يفترض الحفاظ عليها في ظل تعثّر كل من الدولة والقطاع المالي معًا. بل من الناحية العمليّة، كان من المفترض أن تكون سندات الدين مسألة قيد التفاوض، تمامًا ما يجري في حالات تعثّر المدينين. وكما أبلغ سلمان من يعنيهم الأمر، كانت إعادة جدولة سندات "استحقاق تشرين الثاني" مسألة سهلة، طالما أن الأطراف المحليّة تملك أكثر من ثلثي قيمة السندات.
ومع كل ذلك، اختارت حكومة الحريري في ذلك الوقت، وبالتفاهم مع حاكم مصرف لبنان، أن تقترض من احتياطات المصرف المركزي لتسديد هذه السندات، التي قاربت قيمتها 1.5 مليار دولار. وبمجرّد سداد قيمة السندات للمصارف، غادرت العملة الصعبة البلاد فورًا باتجاه الخارج، بغياب أي قانون للكابيتال كونترول لضبط هذه السيولة بعد دفعها للمصارف، أو للتأكّد على الأقل من استعمالها لسداد الودائع. مع الإشارة إلى أنّ المصارف كانت تفرض في ذلك الوقت (تشرين الثاني 2019) قيوداً قاسية على مودعيها، من ناحية سقوف السحب النقدي بالدولار أو التحويل إلى الخارج.
وبعد التسديد العبثي لهذه السندات، بضغط من حاكم مصرف لبنان، أدركت المصارف أنّ التعثّر في سداد الاستحقاق التالي (في شهر آذار 2020) بات مسألة متوقّعة، خصوصًا أن تسديد سندات "استحقاق تشرين الثاني" جرى بشق النفس، وبعد عمليّة ضغط واسعة مارستها كل من المصارف ومصرف لبنان. ولهذا السبب، تسارعت عمليّات بيع سندات اليوروبوند من قبل المصارف للدائنين الأجانب، ما أفقد الدولة اللبنانيّة القدرة على التفاهم محليًّا على إعادة جدولة السندات، كما اقترح في السابق مستشار وزير الماليّة طلال سلمان. ولذلك، وبغياب القدرة على إعادة الجدولة، ومع استنزاف الدولارات بوتيرة سريعة في ظل الانهيار، لم تملك حكومة دياب خياراً سوى اللجوء إلى التوقّف التام عن دفع السندات. ومنذ ذلك الوقت، باتت الدولة اللبنانيّة رسميًّا متخلّفة عن سداد التزاماتها.
تعليقات: