العدوّ يستفزّ لبنان: تنقيب بلا اتفاق


لبنان يطلب وأميركا لا تجيب: التفاوض البحري منعاً للمواجهة | توافق رئاسي على سقف سياسي والمقاومة تنتظر قرار الدولة

حتى ليل أمس، لم يكن لبنان قد تلقّى رسمياً جواباً أميركياً حول استئناف الوسيط الأميركي في ملف ترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة عاموس هوكشتين مهمّته. فيما يتوقع المتصلون اللبنانيون بالسفارة الأميركية في بيروت أو بمكتب هوكشتين في واشنطن أن يكون لديهم جواب أولي اليوم، حول ما إذا كان «الوسيط» سيحضر قريباً تلبيةً لدعوة الرؤساء الثلاثة ميشال عون ونبيه بري ونجيب ميقاتي، سواء عبر السفير الأميركية في بيروت دوروثي شيا، أو بواسطة قناة التواصل التي يديرها مع الأميركيين نائب رئيس المجلس إلياس بوصعب بصفته مساعداً لرئيس الجمهورية في هذا الملف.


لكن، ماذا تعني دعوة هوكشتين مجدداً؟

قبل أسابيع، وعلى هامش اجتماعات عقدت في واشنطن، سأل مسؤولون أميركيون زواراً لبنانيين عن رأيهم في مآل المفاوضات بين لبنان وإسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية، وجاءهم الجواب: «إذا كانت إسرائيل، كما تقولون، تريد اتفاقاً، ولبنان يؤكد أنه يريد اتفاقاً، فهذا يوجب عليكم استئناف الوساطة لا تجميدها». وعندما حاولت السفيرة الأميركية في بيروت الاستفسار بصورة أوضح في لقائها مع أحد الرؤساء الثلاثة، أجابها الأخير: «أنتم تتولّون الوساطة. نعرف أنكم أحرص على إسرائيل من حرصكم على لبنان. مع ذلك، فإن أقل الواجب أن تؤخذ مصالحنا في الاعتبار. وبالتالي فإن الوساطة تحتاج الى دفع لا الى تجميد وتحويلها الى فرض إملاءات».

ما استوجب الحركة الأخيرة لا يتعلق فقط بمسار سفينة الحفر التي وصلت الى منطقة عملها المفترضة أمس، وإنما بالحراك العالمي المتعلق بسوق الطاقة، والضغط الغربي على منتجي ومصدّري الغاز في العالم للمسارعة الى استخراج ما يمكن استخراجه لسدّ النقص الذي تسبّبت به الحرب الروسية - الأوكرانية. وأخذ الأمر بعداً إضافياً بعد التحالفات الإقليمية الكبيرة التي قامت في المنطقة، بعدما نجحت واشنطن بالتعاون مع الأوروبيين في إقناع إسرائيل ومصر وقبرص واليونان والأردن بالتحالف المباشر في عملية بيع الغاز المستخرج من البحر المتوسط. وقد طلب الأميركيون من لبنان الانضمام الى هذا الحلف، وهو أمر يدركون تماماً أنه غير ممكن، كما يدركون في الوقت نفسه الحاجة الى استعجال العمل في حقوله للحصول على موارد مالية يحتاج إليها في مواجهة الأزمة الخانقة. وهو ما دفع بالأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الى إثارة الأمر مراراً في خطبه عشية الاستحقاق الانتخابي. وكان واضحاً أن حزب الله يقول للسلطات اللبنانية أن تبادر الى خطوات تنفيذية كما يفعل العدو، وإن المقاومة جاهزة لحماية هذا الخيار. لكنه حرص في الوقت نفسه على تحييد المقاومة عن النزاع اللبناني «الغامض» حول ملف الترسيم، وإن كانت مراكز القوى الرسمية تدعم عملياً وجهة الرئيس ميشال عون القائلة بأن الخط 29 إنما هو خط تفاوضي.

التطور الميداني المتمثل بوصول سفينة الحفر الى حقل «كاريش»، أمس، أعاد فتح الملف بطريقة دراماتيكية استوجبت سلسلة مشاورات بين المسؤولين والقوى المعنية، أفضت الى الآتي:

أولاً، اتفاق مبدئي على مراسلة الأمم المتحدة، من خلال الرئيس عون أو عبر الحكومة، تتضمن تأكيداً بأن النزاع لا يزال قائماً وأن التفاوض متوقف، وبالتالي لا يحقّ لأيّ طرف المباشرة في أعمال حفر في المناطق محل النزاع التي تقع جنوب الخط 23 حتى آخر نقطة تأثير، وأن لجوء العدو الى خطوات عملانية قد يقود الى مواجهة غير محسوبة من قبله.

ثانياً، عدم وجود اتفاق على إصدار مرسوم جديد يحدّد النقاط الحدودية لإيداعه لدى الأمم المتحدة، خشية أن يتحوّل ذلك الى معرقل للتفاوض لا مسهّل له، وتدارس في ردّ أرسل الى الأميركيين يقول بأن لبنان لا يوافق على اقتراح هوكشتين، لكنه يفتح باب التفاوض حوله، والمهم الآن هو استئناف المفاوضات، وأن تقدم الولايات المتحدة تعهداً واضحاً بأن إسرائيل لن تبادر الى أعمال في المنطقة قبل الوصول الى اتفاق.

ثالثاً، حسم الجدل حول آلية التفاوض، وإقفال الباب أمام الاجتهادات التي شهدتها الفترة الماضية، بعدما تبيّن أن الأميركيين سمعوا أكثر من رأي، سياسي وتقني، في لبنان، وهو أمر سجّل كنقطة سلبية في خانة المفاوض اللبناني، واستغلّه الأميركيون لمحاولة فرض واقع من جانب واحد. وقد سعى الرئيس نبيه بري، على وجه الخصوص، الى إعادة تنظيم الأمور من خلال الإعلان أن الأفضل هو العودة الى اتفاق الإطار كأساس لكلّ بحث.

تجدر الإشارة الى أن تعديل المرسوم 6433 كمنطلق للتفاوض لم يصل الى خواتيمه بسبب تضارب المصالح. فبرّي الذي كانَ قد طلب الالتزام باتفاق الإطار، سبقَ أن رفض تعديل المرسوم ليبقى باب التفاوض مفتوحاً مفضّلاً اعتبار الخط 29 خطاً تفاوضياً ليستطيع لبنان الحصول على المساحة التي كانَ يطالب بها كاملة. إلا أن الملف دخل البازار السياسي والمزايدات، قبلَ أن يمتنع رئيس الجمهورية عن توقيعه بعدما وصل المرسوم إليه. وكان لبنان قد بعث برسالة إلى الأمم المتحدة بتاريخ 28 كانون الثاني 2022 أكد فيها حقّه بالخط 29 بعد حصول شركة «هاليبرتون» الأميركية في أيلول الماضي على ترخيص وقّعت بموجبه عقداً مع شركة «نوبل إنرجي»اليونانية لحفر آبار في القسم الشمالي من «كاريش» القريب من البلوك 9 اللبناني.


الدولة والمقاومة

وبعد الإعلان عن وصول السفينة، انطلقت مشاورات رسمية لتحديد الموقف. فيما تلقّى القصر الجمهوري معلومات رسمية من قيادة الجيش تؤكد أن السفينة رست في نقطة تقع بعيداً قليلاً عن الخط 29، وبالتالي، لا يمكن الحديث عن دخول العدو في قلب المغامرة، وهو ما دفع الى العمل بتأنّ، وعزّز الوجهة التي تدعو الوسيط الأميركي للعودة سريعاً الى لبنان. فيما أخذت مواقف المسؤولين اللبنانيين طابعاً تحذيريّاً العدو، وهي مقدمة إيجابية تساعد على صدور موقف موحد.

وفي ظل صمت رسمي من جانب العدو ومن الجانب الأميركي والأمم المتحدة، لم يرصد أي تفاعل من الجهات الدبلوماسية الغربية في لبنان ما عدا الجانب الألماني الذي يظهر اهتماماً غير واضح الأبعاد. فيما اتجهت الأنظار لمعرفة ردّ فعل حزب الله، وسط تقديرات متفاوتة، علماً بأن الحزب أعلن مراراً على لسان أمينه العام أن المقاومة جاهزة للعمل ضمن محدّدات: أولاً، أن تعلن السلطات اللبنانية موقفاً رسمياً لا لبس فيه يحدد حقوق لبنان وحدود منطقته الاقتصادية. ثانياً، أن يبادر لبنان الى استدراج عروض التنقيب مباشرة وعدم ربط الخطوة بالتفاوض مع العدو، ثالثاً، استعداد المقاومة لتحمل المسؤولية إزاء أي اعتداء إسرائيلي على الحقوق البحرية أو النفطية للبنان. لكن الموقف الأولي على ضوء تطوّرات أمس، جاء على لسان رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله، السيد هاشم صفي الدين، الذي قال «إنّ لبنان يمتلك القدرة والفعالية في استخراج غازه ونفطه وأن يكون مستقلاً عن كلّ وسائل الضغط، التي يخشاها بعض اللبنانيين في الداخل». ورأى أنّ «أميركا هي السبب الرئيس في منع لبنان من استخراج ثروته النفطية. والمطلوب من الدولة، على نحو رسميّ وواضح، أن تعلن ما هي الحدود، وما هي المناطق المتنازع عليها، ليجتمع عندها اللبنانيون بمقاومتهم وجيشهم وشعبهم وعزمهم، ويأخذوا حقوقهم».

وخلال الساعات الـ 24 الماضية، كانت الحرب النفسية قائمة على قدم وساق. فقد سارع العدو الى بث تقارير إعلامية عن استعدادات عسكرية لحماية عمليات الحفر، وعن نشاط جوي وبحري لهذه الغاية، بينما انتشرت في لبنان مقاطع فيديو تعيد التذكير بتحذيرات السيد نصر الله من المسّ بثروة لبنان. وتدرس قيادة المقاومة الموقف في ضوء ما تجمعه من معطيات حول ما يقوم به جيش الاحتلال على الأرض، ونتائج الاتصالات السياسية في لبنان ومع الجهات الدولية. وتقول مصادر مطلعة إن الحزب سبقَ أن أكّد للجهات المعنية في الدولة ضرورة اتخاذ قرار حاسم في شأن الحدود، وأن المقاومة جاهزة لرد أي اعتداء ضمن الحدود التي تحددها الدولة.

على الصعيد الرسمي، لفت رئيس الجمهورية إلى أن «المفاوضات لترسيم الحدود لا تزال مستمرة، وأي عمل أو نشاط في المنطقة المتنازع عليها يشكل استفزازاً وعملاً عدائياً». فيما أكد الرئيس برّي لـ«الأخبار» أنه «ليسَ ممكناً تجاهل الخطوات التي يقوم بها العدو الإسرائيلي (...) ومن المفترض حضور الوسيط الأميركي الى بيروت وإبلاغه أن لبنان لن يقف مكتوف الأيدي أمام هذه التجاوزات، وعليه أن يقوم بإجراءات لوقف هذه التجاوزات، باعتباره مسؤولاً عن ملف التفاوض». وفي ما يُمكن اعتباره موقفاً متقدماً، نبّه بري إلى أنه «إذا لم يتجاوب هوكشتين أو لم يصِل إلى نتيجة، فعلى الحكومة أن تجتمِع وأن تأخذ قراراً وطنياً بالإجماع بتعديل المرسوم 6433 وإرساله إلى الأمم المتحدة».


برّي: في حال عدم تجاوب هوكشتين على الحكومة أن تجتمِع وأن تأخذ قراراً بالإجماع بتعديل المرسوم 6433

من جهته، رأى ميقاتي أنّ «محاولات ​العدو افتعال أزمة جديدة، بالتعدي على ثروة لبنان المائية، وفرض أمر واقع في منطقة متنازع عليها، أمر في منتهى الخطورة، ومن شأنه إحداث توترات لا يمكن أحداً التكهّن بتداعياتها». وحذّر في بيان «من تداعيات أي خطوة ناقصة، قبل استكمال مهمة الوسيط الأميركي، التي بات استئنافها أكثر من ضرورة ملحّة»، داعياً «​الأمم المتحدة​ وجميع المعنيين الى تدارك الوضع وإلزام العدو الإسرائيلي بوقف استفزازاته».

وزير الخارجية ​عبد الله بوحبيب رأى أنّ الأميركيين غير جديّين في موضوع ​ترسيم الحدود​، «ولو كانت هناك جدية لما زار المبعوث الأميركي عاموس هوكشتين بيروت مرتين فقط»، مؤكداً أن «الرؤساء الثلاثة متفقون على الجواب على مقترح هوكشتين، لكنه لم يأت لتلقّيه».

ودعا وزير الدفاع ​موريس سليم، في بيان، المجتمع الدولي والأمم المتحدة الى «التحرك سريعاً لاستباق أي تدهور أمني في جنوب لبنان، ستكون له انعكاسات على الاستقرار في المنطقة»، مشيراً إلى أنّ «التحركات التي تقوم بها إسرائيل في المنطقة المتنازع عليها تشكل تحدّياً واستفزازاً للبنان، وتحاول خلق أمر واقع وتطيح بذلك الجهود لاستئناف مفاوضات ترسيم الحدود البحرية».



إسرائيل تستكين وتهدد: تفاهمنا مع لبنان عبر أميركا

يحيى دبوق

تلتزم إسرائيل الرسمية بصمت لافت إزاء وصول حفّارة التنقيب عن النفط والغاز إلى حقل «كاريش»، فيما تترك لإعلامها ومراسليه إدارة معركة التصريحات والمواقف و«اختبار الإرادات والنيات»، عبر تقارير محدودة وموجّهة.

لم ترد من تل أبيب، حتى الآن، مواقف وتعليقات رسمية ذات شأن، فيما تترك إدارة المسألة البحرية مع لبنان، بما يشمل نية الحفر في «كاريش»، لتقارير مراسلي الشؤون العسكرية والأمنية والاقتصادية، ولكن تحت إدارة وإشراف واضحين من الرقابة العسكرية وبتوجيه من المؤسسة العسكرية. ووفقاً لما صدر في اليومين الأخيرين، يمكن ملاحظة الآتي:

أولاً، تُدار خطة الحفر في كاريش بتأنٍّ وحذر وعدم الانجرار إلى التعليق الرسمي، عسكرياً وسياسياً، بما يحقّق الأهداف، ويحول دون استفزاز الطرف الآخر أو كشف النيات الحقيقية له. وهذا يستدعي، في المقابل، تأنّياً وحذراً في إطلاق المواقف وتقدير أفعال العدو. فالمواقف والتعليقات الواردة من لبنان، بما فيها إشارات الفعل واللافعل والتأييد واللاتأييد للمقاومة والتشبّث بالحق الغازي والنفطي، كلها ستكون جزءاً لا يتجزّأ من أي قرار تتخذه إسرائيل إزاء الاعتداء على الحق اللبناني.

ثانياً، من الواضح تماماً قرار المستويين السياسي والعسكري بترك الأضواء للإعلام العبري هذه الفترة لينشر ويعلق ويقدّر المواقف والمآلات. وهذه سياسة مدروسة جداً ويرجح بقوة أنها مقرّرة بما يلزم كل المستويات الإسرائيلية. فأي موقف رسمي، سياسي أو عسكري، يصدر مباشرة عن أي مسؤول في تل أبيب، وتحديداً من الصف الأول، سيكون مُحرِجاً جداً للكيان العبري. كما تفتح هذه السياسة نافذة التراجع في حال قدّرت القيادات المعنية وجود أضرار يحاول العدو تجنّبها.

ثالثاً، تتحدث التقارير الإسرائيلية، على قلّتها حتى الآن، عن أن عمليات الحفر ومن ثم استخراج الغاز من «كاريش»، هي عمل طبيعي ولا يرتبط بأي نزاع قانوني أو غير قانوني مع لبنان. بل تشير التقارير العبرية، بنوع من الاستغراب، إلى أن «هناك في لبنان» من يتحدث عن مكان متنازع عليه رغم أن «هذا المقطع الشمالي خارج أي تنازع». وكان لافتاً ما ورد في تقرير مراسل الشؤون العسكرية في القناة 12 بأن «الجزء الشمالي لحقل كاريش يلامس الحدود البحرية للبنان»، وهي ملامسة وليست خرقاً. والأهم في التقرير هو التأكيد على وجود اتفاق مسبق مع لبنان يخرج «كاريش» من دائرة التنازع، إذ جاء في التقرير أن «هناك توافقاً حول الموضوع جرى التوصل إليه عبر اللجنة المشتركة التي يرأسها المبعوث (الأميركي) الخاص للطاقة في الشرق الأوسط عاموس هوكشتين».

في موازاة ذلك، تحرص التقارير العبرية على إظهار «اضطرار» إسرائيل لاستخراج الغاز من حقل «كاريش» تحديداً، بوصفه حاجة استراتيجية لا يمكن لتل أبيب أن تتجاوزها. وفق التعبير العبري فإن «منصة كاريش تشكل مرفقاً اقتصادياً أساسياً ومن المتوقع أن يزود الاقتصاد الإسرائيلي بالغاز الطبيعي الذي يُستهلك في إسرائيل نفسها لسد حاجاتها الخاصة» وليس مخصصاً للتجارة، وصولاً إلى الإشارة إلى ضرر قد يصيب قطاعات استراتيجية أخرى، «وقد يؤدي الضرر الذي يلحق بالمنصة إلى صعوبات حقيقية في أداء الاقتصاد الإسرائيلي، إلى حد الإضرار بإمدادات الكهرباء المنتظمة للإسرائيليين».

رابعاً، إلى جانب «البراءة والوداعة والحاجة الاقتصادية والحرص على التفاهم المسبق»، تلمح التقارير الإسرائيلية إلى وجود إجراءات وتدابير عسكرية تخدم أمن حقل «كاريش» وما فيه من معدات ومنشآت، يتولاها سلاح البحر في جيش العدو. ووفقاً للتقارير العبرية، «بدأ سلاح البحرية عملية أمنية واسعة حول منصة الحفر والإنتاج التي وصلت صباح اليوم (أمس) إلى وجهتها على بعد تسعين كيلومتراً قبالة الساحل الإسرائيلي، عند النقطة الأقرب إلى شواطئ لبنان»، مشيرة إلى أن البحرية الإسرائيلية ستنهي في الأسابيع المقبلة ترتيباتها وإجراءاتها، لتبدأ عمليات الحفر، ومن ثم استخراج الغاز». مع الإشارة إلى أن «لغة تهديد» تضمّنها الحديث عن نشاط البحرية الإسرائيلية مثل التذكير، بعد أكثر من عام على اعتدائها الأخير على قطاع غزة (معركة سيف القدس)، بأن الدفاعات الجوية أسقطت طائرة مسيّرة لحركة حماس أُطلقت من غزة كانت موجّهة لاستهداف حقول غاز في المتوسط».


تعمل إسرائيل وفق استراتيجية مدروسة لتكون قادرة على فرملة نفسها وفقاً لردّ الفعل المقابل

لذلك، يمكن القول إن ما نشهده من تعبيرات إسرائيلية يمثل مقدمات ضرورية تمهيداً لما يمكن لها أن تقوم به، لكن يبدو أن الأمر مرتبط بردة الفعل من جانب لبنان. وهنا تلقي تل أبيب الكرة في الملعب اللبناني، ضمن مقاربة ظاهرية غير رسمية يمكن التراجع عنها وفقاً للفعل المقابل. لكن مع حرص تل أبيب على تظهير «حقها»، وأنها في وارد استغلال حق «غير متنازع» عليه، وأنها حرصت مسبقاً على التفاهم عبر الوسيط الأميركي، مع التلويح وإن بإشارات غير مباشرة إلى أنها على استعداد أمني وعسكري للمواجهة العسكرية.

مقاربة مدروسة جيداً ومُعَدّ لها مسبقاً ويجري تنفيذها بدقة وعناية لافتتين. طبعاً التهديد المقابل، من حزب الله أولاً باستخدام القوة لحفظ الحق اللبناني، وثانياً الالتفاف الطوعي والقسري للقوس السياسي على اختلافه، عامل مؤثر في هذه المقاربة، وإلا ما كانت إسرائيل لتلجأ إلى الحذر وطرح خططها بالتدريج لتكون قادرة على فرملة نفسها وفقاً لرد الفعل المقابل.

تقرير القناة 12 العبرية كان عنوانه سؤال: «منصة الغاز التي قد تشعل مواجهة مع حزب الله؟». هنا يجب إعادة صياغة السؤال حول مآل «المواجهة التي تسبّبت بها إسرائيل، انطلاقاً من حقل كاريش؟» وقد يكون السؤال الثاني، أكثر دقّة وموضوعية.



برامج العدوّ العملانيّة: امتلاك «كاريش» وقضم «قانا»

عبد الله قمح

فجر أمس، وصلت سفينة استخراج الغاز الطبيعي المسال وتخزينه، التابعة لشركة «إينرجيان» اليونانية، إلى حقل «كاريش»، ورست في الجزء الجنوبي من الحقل، من دون أن تتجاوزه بعد إلى الجزء الشمالي الواقع داخل الخط 29 الذي يعدّه لبنان خطاً تفاوضياً، وكل ما يقع داخله مناطق متنازعاً عليها. لذلك، فإنّ التحدّي الأساس هو في كيفيّة مقاربة الجانب اللبناني لاستحقاق قرب بدء حفر البئر KN-01 داخل هذا الخط شمال «كاريش»، وهو الخطوة التالية بعد وصول السفينة، وكيفية التعاطي مع إعلان تل أبيب نيّتها إطلاق دورة التراخيص الجديدة عن الغاز في البحر المتوسط المؤجّلة منذ عام 2020، إذ يرجّح خبراء أن تشمل هذه الدورة بلوكات غازية متنازعاً عليها بحكم وجودها داخل الخط 29، ما يعني، بحسب مصادر معنيّة لـ«الأخبار»، أنّ العدوّ عازم على استغلال التخبّط اللبناني إلى الحدّ الأقصى، لاستئناف مسار وضع اليد على المكامن الخاصة بلبنان أو المشتركة معه، وليس في وارد انتظار نتائج مسار المفاوضات غير المباشرة المتوقفة منذ أشهر.

ورغم أن لا تقديرات حتى الآن، لدى الخبراء الذين تحدّثت إليهم «الأخبار»، تحسم وجهة دورة التراخيص الإسرائيلية، لكن ربطاً باهتمامها البالغ بالمنطقة المحاذية للبنان ومحيط «كاريش»، يرجّح بقوة أن تشمل البلوكات: 4 و5 و6 و7 و8 و13 و14 و15 و16 و71 و72. وفي ما يعني لبنان، يقع كل من البلوكات 4 و7 و8 و15 و16 و71 و72 ضمن الخط 29 الذي صنّفه الفريق العسكري التقني المفاوض على أنه سقف للحدود اللبنانية. وللبلوك 72 أهمية خاصة، إذ إنه ملاصق للخط 23 ويقع بمجمله داخل الخط 29، وهو يضمّ القسم الجنوبي من «حقل قانا» اللبناني. وفي حال ذهاب العدوّ نحو تلزيم «البلوك 72»، يكون قد نجح عملياً في سلب لبنان نقطة قوة. إذ إنه إضافة إلى نزع الأفضلية والأسبقية، يكون قد جعل من «حقل قانا» بأكمله منطقة نزاع، ما يعرقل خطط لبنان للاستكشاف والتلزيم مستقبلاً.

ولا تنحصر المخاطر الإسرائيلية على الحقوق اللبنانية في «البلوك 72»، إذ إن البلوكين 4 و7 يقعان بمحاذاة «البلوك 8» اللبناني غير المكتشف بعد. وكان الوسيط الأميركي عاموس هوكشتين قد طرح خلال زيارته الأخيرة لبيروت في شباط الماضي منح لبنان الخط 23 معدلاً، يقضم جيباً إلى الجنوب من «حقل قانا» ثم ينحني باتجاه «البلوك 8» ويأخذ مساحة شاسعة منه.

وقد تزامن اقتراح هوكشتين مع ضمّ العدوّ البلوكات المحاذية للبلوك 8 اللبناني إلى دورة التراخيص، ما يقود الى تفسير واحد، وهو أن لدى العدوّ مسوحات تؤكد وجود مكامن غازية محتملة فيه، ما يفسر اهتمامه بقضم جزء منه. ولاحقاً، سيكون بمقدور تل أبيب التسلّل إلى البلوكات اللبنانية ما سيخوّلها إعادة تسويق نظرية «الاستفادة من المكامن المشتركة».

وفيما يتحبّط لبنان الرسمي في مقاربة هذا الملف، يتقدم العدوّ نحو توقيع عقود طويلة الأمد مع دول أوروبية لتصدير الغاز إليها من حقول جنوب المتوسط، بالشراكة مع مصر، وقد شُكّل فريق أوروبي – إسرائيلي لوضع إطار سياسي بالتنسيق مع القاهرة من أجل ضمان تدفق الغاز إلى «القارة العجوز» خلال 18 إلى 24 شهراً على أبعد تقدير، على أن يوكل إلى القاهرة مهمة تسييل الغاز الإسرائيلي من خلال مصانع شركة «إدكو» في دلتا النيل.




تعليقات: