أبناء العشائر بين الأمس واليوم: البقاء للأقوى حتى قيام الدولة

صار الانتماء العشائري سمعة سيئة (هيثم الموسوي)
صار الانتماء العشائري سمعة سيئة (هيثم الموسوي)


تُعيد الأحداث الأمنية المتكرّرة بين الجيش وعصابات ترويج المخدرات قضية العشائر إلى الضوء، ومن الوجهة نفسها التي يتناولها الإعلام منذ عقود: صورة سلبية مرتبطة بمخالفة القانون والاعتداء على أرزاق الناس من جهة وبعادات انتقامية لا يتخلّون عنها مثل الثأر من جهة ثانية. صورة يصعب تعديلها في ظلّ غياب دولة يحلمون بوجودها

عندما يُعرّف أبناء العشائر الكبيرة مثل دندش وزعيتر وجعفر وعلّوه والمقداد وغيرها عن هويّتهم يُقابلون بردّة الفعل نفسها: صدمة بنكهة الخوف تليها نكتة سمجة: «معك حشيشة؟» أو سؤالٌ خبيثٌ: «إن شاء الله ما حدا من العائلة محبوس أو طافر؟» إلى أن صار الانتماء العشائري سمعة سيئة تؤذي أصحابها. حتى أحد وجهاء العشائر، الذي يحتل منذ عقود منصباً رئيسياً في الدولة، يرفض أي سؤال عن وضع العشائر، واصفاً إثارة الموضوع بـ«الملغومة».

تتحدّث سيدة من آل شمص عن عجزها في العثور على منزل للإيجار لأن انطباع أصحاب البيوت حول العائلة أنها لن تدفع وستسكن بالقوة. تقول: «كلما ذكرت أمام صاحب منزل اسم عائلتي، أؤكد له مباشرة أننا لسنا زعراناً وليسأل عنّا، إلا أن الغالبية ترفض تأجيرنا». أما وسام المقداد فيتحدّث عن صعوبات يواجهها لإيجاد فرصة عمل، «ومن يقبل يشترط أن أبرز سجلاً عدلياً نظيفاً لتسقط عني تهم جاهزة مرتبطة بالمخدرات واستسهال سفك الدماء». الزواج من ابن أو ابنة عشيرة «مرفوض» أيضاً لأنه «يوجع الرأس» و«أحد لا يفضّل أن يعلق مع عشيرة».

من جهة ثانية، أن تكون ابن/ ة عشيرة يعني «هيبة ووقار»، بالنسبة لسيدة من آل دندش. ورغم أنها خلعت عباءة العشيرة وتقطن بعيداً عن تنظيماتها، إلا أنها تتباهى بطريقة التعامل معها، «الناس بتحسبلك ألف حساب قبل أن تغلط معك». غيرها وجد أن انتماءه لآل زعيتر «يوفر له ظهراً يحميه عند أي خلاف صغير».


سلطة العشيرة

ما هي العشيرة؟ عن هذا السؤال يجيب أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية طراد حمادة: «هي وحدة اجتماعية تقوم على التضامن والعصبية والتكاتف والدفاع عن مصالحها. تتواجد عادة في مساحة جغرافية واحدة. وتكون جزءاً من قبيلة لها أعرافها وتقاليدها التي تلتزم فيها التزاماً تاماً. وتتميّز بمتانة العلاقات الداخلية». وفي منطقة بعلبك- الهرمل، التي تنتمي إليها غالبية العشائر في لبنان، «ترجع العشائر إلى قبيلة مدحج».

تاريخياً، كرّست الحياة العشائرية في بعلبك - الهرمل، المنطقة الحدودية والمحرومة قاعدة «البقاء للأقوى». منذ الدولة العثمانية، مروراً بحقبة الانتداب الفرنسي، إلى ما بعد الاستقلال والطائف، لم يعرف أبناء بعلبك - الهرمل ما هي الدولة.

هذا الانتماء العشائري المتين يتطلب التزاماً بأعراف العشيرة وتقاليدها وإن كان يتراجع مع الوقت. فلم يعد الأبناء، مثلاً، يتقدّمون بالطاعة إلى زعيم العشيرة. لكن المفارقة أن الكلمة الفصل صارت لكبار المهرّبين وتجار المخدرات ممن يمتلكون نفوذاً كبيراً. حتى الانتماء الحزبي لم يستطع أن يحدث تغييراً كبيراً، لذا قد يمكن القول، بحسب عدد من أبناء العشائر الذين حاورناهم أن «سلطة العشيرة تراجعت، لكنها لم تنكسر».


اقتصاد الممنوعات

التحوّل من زعامة كبير العشيرة إلى سلطة مهرّب المخدرات لم يحصل بين ليلة وضحاها، بل جاء نتيجة عقود من إهمال الدولة لواجباتها تجاه أبنائها المقيمين في مناطق نائية وبعيدة عن كلّ مقومات الحياة الكريمة. وعندما وجد أبناء العشائر في بعلبك– الهرمل أنفسهم مخنوقين في رقعة تنقصها أبسط أشكال الإنماء، ويقيمون في جرود تصلح لزراعة الحشيشة وعلى يمينهم الحدود مفتوحة مع سوريا، بنوا اقتصاداً قائماً بشكل أساسي على الممنوعات: زراعة الحشيشة وبيعها والإتجار بالمخدرات والتهريب، ما أدى إلى نشوء جيش من الطفّار في الجرود، المطلوبين بمذكرات توقيف غيابية يحتمون بسلطة العشيرة من السلطات العامة. «هؤلاء لم يولدوا طفاراً، إلّا أن النظام السياسي والأمني في المنطقة دفعهم إلى ذلك»، بحسب الوزير السابق طراد حمادة، الذي لا يجد حلاً لمشكلة الطفّار غير «التسريع في المحاكمات وإجراء المصالحات».


النزوح إلى بيروت

ورغم نزوح كثيرين من أبناء العشائر إلى ضواحي بيروت، ظلّت غاية البقاء لدى البعض تبرّر استخدام القوة بغرض الحماية وكسب لقمة العيش. لم يغيّر النزوح كثيراً في حياتهم، إذ إنهم راحوا يتجمّعون في أحياء سكنية في الضواحي، حتى صرنا نسمع عن حيّ زعيتر في الليلكي وفي الفنار، وحيّ المقداد في الرويس والشياح، وحيّ مشيك في صحراء الشويفات... محافظين على الطابع العشائري واللحمة في ما بينهم. ويرى حمادة ذلك «أمراً طبيعياً، فكما عاش الأرمن مع بعضهم البعض في أحياء واحدة، سكن ابن العشيرة بالقرب من أخيه وابن عمه». لكن ما قد لا يبدو طبيعياً أن يحافظ عدد من أبناء العشائر على الشعار الذي حفظوه: البقاء للأقوى. وتحت هذا الشعار سيطرت شريعة الغاب في مناطق نفوذهم، واستخدموا القوة بحجة الحماية وكسب لقمة العيش، إلى أن صارت عصابات المدن أخطر بكثير من عصابات المناطق لأنها تستلزم نفوذاً أكبر.


اقتصاد «البلطجة»

العيش في المدينة شكّل اقتصاداً مغايراً لمجموعة من أبناء العشائر قائماً على «البلطجة»، كاحتكار خط «فان» أو مولد الكهرباء في الحي، وكان أكثرها «بلطجة» فرض الخوّات على المحال بالقوة بدل حماية. لكن أي حماية وممّن؟ الله أعلم. وطبعاً كل من يتمرّد يجري تأديبه بأساليب شتى تصل إلى القتل، ليكون عبرة لغيره. و«المعارك» التي تقع بين أفراد من عشيرتَين، تدوم لساعات أو أيام، تُستخدم فيها الأسلحة الرشاشة والصاروخية، قد تقفل على إثرها مدارس وتُصاب منازل ويسقط ضحايا جرّاء الرصاص الطائش.


صارت عصابات المدن أخطر من عصابات المناطق لأنها تتطلّب نفوذاً أكبر

يُعيد أحد كبار العشائر السلوكيات العنيفة والخارجة عن القانون إلى «البطالة واللاعدالة في توزيع الأرزاق»، ضارباً مثلاً: «إذا شوى جارك اللحمة وأنت جائع وتشمّ الرائحة، ألا تنقضّ عليه؟» وردّاً على السؤال: «ممّن يحمي أبناء العشائر أنفسهم؟ وهل هم وحدهم الغارقون في البطالة؟» يجيب: «دائماً التركيز علينا وكأننا وحدنا المهرّبون وتجّار المخدرات. ألا يوجد في مناطق أخرى خارجون عن القانون لأنهم محرومون؟».

برأيه، لا يحلم ابن العشيرة بأكثر مما يحلم به كلّ اللبنانيين: دولة قوية وحرّة وعادلة تعترف بوجودهم وتعاملهم بإنصاف وتمنحهم الحقوق المسلوبة. ولأنهم لم يعرفوا شيئاً من هذه الدولة، لا أمناً ولا تعليماً ولا طبابة ولا فرص عمل... يتمسّكون بسلطة العشيرة التي توفر لهم البقاء على قيد الحياة.

تعليقات: