تمحور خطاب حزب القوات على مخاصمة حزب الله (علي علّوش)
أما وقد انتهى موسم الانتخابات النيابية، فإنه بات ضرورياً الانتقال إلى مواسم البذار السياسي، والاستعداد لما قد يأتي أُكُلَه من هذا البذار.
لقد بذر حزب القوات اللبنانية "حبّاً" اعتراضياً كثيفاً، من فترة اختيار البقاء خارج السلطة التنفيذية، وطوال الشهور التي تلت تلك الفترة. رافق خيار الانسحاب التنفيذي هذا، خطاب عالي النبرة، وممارسة متقطعة في الشارع، عندما اندلعت "الحركة التشرينية" عام 2019.. وما زال الصوت العالي يتمدد حتى ملامسة "إعلان هذا البيان".
خلط الفترات
أول ما يواجه حزب القوات اللبنانية التمييز بين التحضير لخوض معركة التمثيل المسيحي قبيل الانتخابات، وبين انقضاء وقت التحضير المتصل اتصالاً مباشراً بالميزان السياسي الواقعي، الذي انجلت عنه نتائج الاقتراع. في هذا المضمار، لا يفيد حزب القوات اللبنانية الاستغراق في احتساب العدد ضمن بيئته المسيحية، هو الذي يقدّم معارضته بصفة وطنية عابرة، ولا يفيده أيضاً الاستغراق في تبيان مظاهر عبوره، وهو يشدّد على أنه يمثّل النسبة الأعلى مسيحيّاً. لم تكن البيئة الخاصة، لبنانياً، إلاّ قاعدة ارتكاز لأبنائها، وكانت قاعدة انطلاق نحو البيئات اللبنانية المقابلة، بمقدار ما كانت هي، أي البيئة الخاصة، مَرِنَة مستقبلة ومتفاعلة ومنفتحة. عكس ذلك، كانت البيئة ضامرة ضمن حدودها، بالتناسب مع عمليات شدّ عصبها الخاص "البيئوي"، الذي يقابله التشدّد العصبي، والعصابي حتى، في البيئات الطائفية المختلفة.
واقع الحال، أن حزب القوات اللبنانية قد أمعن في شدّ عصب جمهوره الخاص، إلى الحدود التي بات التراجع المتدرّج عن النبرة النفيرية صعباً، وإلى الحدّ الذي جعل قبول التراجع من قبل الذين أصيبوا بشظايا "النبرة"، أمراً صعباً هو الآخر.
الخلاصة التي تبدو أنها ضرورية في هذا السياق، ليست أقلّ من طلب مراجعة يجريها حزب القوات اللبنانية لهذا الأداء الاستنفاري، وذلك في ضوء المعطيات العامة التي أفرزتها صناديق الاقتراع. هذا إذا أراد الحزب المذكور أن يدفع عنه صفة تغليب المطلب الخاص بشعارية تتضمن المطالب العامة.
خصام الحزب مع الحزب
تمحور خطاب حزب القوات على مخاصمة حزب الله. دخل "القواتيون" ميدان المخاصمة من كل الأبواب. شعارات الخصومة واضحة: نزع سلاح حزب الله. استعادة الدولة من الدويلة. مواجهة الاحتلال الإيراني من خلال مواجهة قوى ارتكازه المحلية، وفي طليعتها الثنائي الشيعي.
الإشارة إلى بنود الخصومة بعناوينها الواضحة ضرورية جدّاً، لأنه مطلوب الردّ بوضوح سياسي. على هُدَى الوضوح يمكن بناء قبول الخطاب أو رفضه. ويمكن التعرّف على إمكانية فتح نقاش آني ومباشر حوله.
بالإشارة إلى ما تقدّم، نسجّل أن الأحادية السياسية طبعت خطاب حزب القوات اللبنانية. والأحادية هذه كانت ضدّية في منطلقاتها، وتستمرّ ضدية في شرحها وفي تفسيرها. هذه الضدّية تستوجب القول "بعدميتها" في الحالة اللبنانية. وهي غير واقعية حالياً. هذا إذا كانت الواقعية تعني البناء على ما هو ممكن فعلاً، والتطلّع إلى أفق ممكن مستقبلي يتجاوز الممكن الذي تراه العين وتلمسه اليد، وتُفْتي به البصيرة.
تلخيص حملة القوات اللبنانية بشعار السيادة لا يقدّم حلاًّ لمعضلة، بل يفتح على معضلات حلول. يبدأ ذلك من تعريف السيادة ذاتها، ويستطرد ليطال تعريف السياديين. ثم يمعن في الشرح ليصل إلى حشد الأدلة التاريخية التي تقول بأن السيادي المنافح عن السيادة اليوم، لم يكن سيادياً حقاً عندما اعتقد أنه كان يقاتل دفاعاً عن السيادة، في عدد من المحطات التاريخية اللبنانية.
اعتراض القوات على الاعتراض
جنباً إلى جنب مع خطاب السعي إلى امتلاك الدور الأول مسيحياً، سار خطاب القوات الساعي إلى تصدر المشهد الأول اعتراضياً. بدأ ذلك في معارضة الكلام القواتي لشعار "كلّن يعني كلّن" الذي رفعه حراك 17 تشرين، ثم استمرّ في معرض السجال مع أطياف المعترضين عموماً، قبيل الانتخابات النيابية وبعدها، وصولاً إلى ما بعد الاجتماع الأول لمجلس النواب الجديد، الذي انتخب رئيسه ونائب الرئيس.
نحا كلام حزب القوات، وما زال ينحو، خطاباً تطهريّاً ينزّه الذات عن اسم "المساومة" ويلوّح بثوب التطهرية الناصع، كلما لاحت من الأصوات الاعتراضية بوادر القبول بالانخراط في نقاش سياسي ما مع الطرف الذي يحتل موقع الخصام مع القوات. إذن، وعلى جبهتين، جبهة "المقاومة المسيحية" وجبهة المقاومة الاعتراضية، يطرح حزب القوات إسمه وجسمه ومشروعه كقيادة لمجمل العملية الاجتماعية الاعتراضية، وكقيادة مستقبلية لمجمل العملية السياسية الدولتية. مهمة القيادة هذه لها عنوان وطني عام، هو عنوان الإنقاذ المزدوج، أي إنقاذ الاعتراض من لا جدوى اعتراضيته، وإنقاذ الجمهورية من خطر الهيمنة والإلحاق والاستتباع، الذي يلغي معناها كدولة، ويلغي معنى لبنان ككيان. كم ينطوي الخطاب القواتي المتمادي على تطلّب سياسي ما زال متعذراً على القوات مسيحياً، وعلى طموح سياسي ممتنع وطنياً، لأسباب داخلية ما زالت راسخة، ولأسباب صراعية ما زالت جراحها نازفة.
النزول عن الشجرة
لقد تسلقت القوات اللبنانية شجرة الشعارية، فقاربت ذروتها، وعليها أن تباشر رحلة النزول عنها، إذا أرادت الاعتراف بحقيقة حصيلتها السياسية المسيحية، وبحدود موقعها ضمن الساحة الاعتراضية. التصرف من قبل القوات هذه المرة على طريقة "كلن يعني كلن" لا يفضي إلى مكسب سياسي. ورفع شعار الصواب الاعتراضي الأحادي الجانب، على طريقة من يملك الحقيقة دون سواه، ممارسة عقيمة. ومتابعة السجال من وضعية "الوقوف على رجل واحدة" يوصل فقط إلى شحن المشهد السياسي بمزيد من الاحتقان. والانسحاب من مسؤولية المشاركة في استنباط أطر تنسيق اعتراضية متنوعة، لا نتيجة له سوى وهم قطاف ثمار التفرّد الإعلاني. وهذا يظلّ واقعياً خاوي السلال. على القوات أن تحتل موقعها الاعتراضي الذي يطابق واقعها في بيئتها، ومع من يلتقي معها في خطابها. وعليها أن تبحث في شكل انخراطها في السلطة التنفيذية، إذا ما رأت أنه يمكن إحداث فرق جوهري، لجهة عدم احتكار التمثيل المسيحي من قِبل منافسها التيار الوطني الحر. ولجهة إحداث توازن سياسي عام، بضغط من الحضور النيابي الرسمي للمعارضة، وبضغط من حركة الشارع الشعبية، التي يجب أن ترافق عملية إعادة بناء الدولة، بناءً متدرجاً صعباً، وطويل المسار.
بعد ذلك، أي بعد النزول إلى تحت، هناك متَّسعٌ من الوقت ومروحة من الخيارات للنقاش التفصيلي في كل الشعارات، وفي كل العناوين، وفي كل الاقتراحات، ذلك أن كثيراً من الخطأ السياسي يعتري ما يظنّه أصحابه أنه جامع الصواب.
تعليقات: