الهاتف العادي في الحرب
»وحدهم عناصر الإشارة كانوا مضطرين للعمل تحت أعين طائرات التجسس«..
»سلاح الإشارة« هو العمود الفقري الذي يرتكز عليه جسم المقاومة، »وتعرض أي من فقراته للإصابة قد يؤدي إلى شلل الجسم بأكمله«، بهذه العبارة يلخص احد المقاومين الأهمية العملية لشبكة الاتصالات الخاصة بالمقاومة والتي عليها تتوقف حركتها، فهي من صلب عملها وجزء لا يتجزأ منها ومكون أساسي من مكوناتها، توازي حاجتها في المعارك حاجة المقاوم للسلاح، والعلاقة بينها وبين المقاومين عمدت بالدم فهنا سقط شهيد حرصا على استمراريتها، وهناك جرح آخر، وبفضلها أيضا تحقق الكثير في حرب تموز العام ،٢٠٠٦ فكانت هدفا لطائرات العدو ومدافعة على مدى ثلاثة وثلاثين يوما حيث صبت حممها على تقاطع القرى والمدن الجنوبية لتحقيق أمرين: الأول عزل المناطق عن بعضها، والثاني قطع خطوط الشبكة لعزل المقاومين ومنع وصول الإمدادات إليهم.
وهذه الشبكة ليست جديدة، بل يعود تاريخ إقامتها إلى سنوات ما قبل التحرير. فقد فرضت الضرورات العسكرية آنذاك، اعتماد بديل عملي للاتصالات اللاسلكية التي كانت تستخدمهما المقاومة، باعتبارها الوسيلة الوحيدة للاتصال، والتي استطاع المحتل حينها اختراقها بتقنياته المتطورة والنفاذ الى الموجات الخاصة بالمقاومين، وتعقبهم أثناء إجرائهم لأي اتصال في ما بينهم او بين قياداتهم، عبر التنصت عليهم وتحديد مكان إجراء الاتصال بدقة، فيقوم عندها بقصفه. وهذا ضاعف من خسائر المقاومة البشرية. إضافة إلى ذلك فإن طبيعة المواجهة العسكرية القائمة وتطور العمل المقاوم، حتّما على »حزب الله« استخدام أساليب جديدة مضادة وبديلة تؤمن حرية التحرك بعيدا عن أجهزة التنصت والتجسس والتشويش الجوي والأرضي.
وترجمت المقاومة هذا الأمر من خلال قيامها بتطوير شبكة الاتصالات بعد التحرير في العام ،٢٠٠٠ بعد اقتصار خطوط الاتصال على بعض المحاور ومناطق المواجهات، لتشمل لاحقا، وبعد التحرير، القيادات والمقرات والمراكز الخاصة بها، فضلا عن النقاط العسكرية التي كانت منتشرة قبل حرب تموز بمحاذاة الحدود اللبنانية الفلسطينية بدءا من الناقورة ساحلا وصولا حتى مرتفعات شبعا جبلا.
ويشرح احد قياديي المقاومة الذين شاركوا في مواجهات حرب تموز في منطقة بنت جبيل وضواحيها، الفائدة العملية للشبكة: في غضون دقائق قليلة بعد عملية أسر الجنديين الاسرائيليين في ١٢ تموز، كان مقاتلو المقاومة قد أصبحوا على أهبة الاستعداد على امتداد خطوط الجبهة، حيث جرى استنفار قادة ترسانات الأسلحة ومسؤولي الوحدات الصاروخية والمدفعية المضادة للدروع، وتصدوا حينها للدبابات الإسرائيلية التي حاولت الدخول الى الاراضي اللبنانية لمطاردة العناصر المشاركة في العملية، فدُمرت دبابة وقتل على الفور كامل أفراد طاقمها الأربعة بحسب اعترافات الجيش الإسرائيلي.
ويتابع القيادي، ان الغاية الرئيسة من الشبكة هي: أولا، ربط القيادة بالعناصر المنتشرة على الأرض، ثانيا استخدامها خلال مرحلة الإعداد والتجهيز في مرحلة ما قبل الحرب التي تتطلب درجة عالية من السرية، وعدم الانكشاف للعدو انطلاقا من قاعدة مكافحة التجسس. وقد ظهر هذا الأمر بوضوح مع استخدام المقاومة للصواريخ المضادة للدبابات والتي استطاعت أن تحطم أسطورة الميركافا، إضافة إلى ان العدو تفاجأ بامتلاك المقاومة لصواريخ طويلة المدى طالت العمق الإسرائيلي وأيضا لصواريخ أرض ـ بحر. ثالثا: على مستوى التكتيك العسكري، أفادت الشبكة من خلال إعطاء الأوامر حتى في أدق الظروف«، ويعطي مثلا على ذلك انه »أثناء المعارك طلبت قيادة المقاومة من المقاتلين ترك العدو يدخل إلى بعض القرى والوديان حتى يقع في كمائن المقاومين، وهذا ما كان وأدى الى وقوع خسائر كبيرة في صفوفه، كما حصل في عيتا الشعب ووادي الحجير، وبنت جبيل.
ويشرح القيادي الأهمية العسكرية للشبكة بالقول »من المستحيل أن تعمد القيادة إلى إدارة العمليات والتنسيق مع العناصر من دون ان يحدد مكانها إلا من خلال هذه الوسيلة«، ويذكر بقصف البارجة الاسرائيلية »ساعر خمسة« قبالة شاطئ الاوزاعي. يقول إن »نجاح العملية وسرعة التنفيذ اعتمدا بشكل رئيس على آلية التواصل بين مستويات عدة، من العناصر التي أطلقت الصاروخ، الى القيادة العليا التي أعطت الأوامر الى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الذي أعلن على الهواء مباشرة إصابة البارجة«.
المنظومة الصاروخية
يفند ضابط ميداني آخر العلاقة بين منظومة الاتصال والمنظومة الصاروخية أثناء حرب تموز الأخيرة من خلال نقطتين رئيسيتين يجب توافرهما قبل إطلاق أي صليات صاروخية. النقطة الأولى هي تحديد زمان الرماية والثانية مكان الرماية، فالأهداف الكبيرة والإستراتيجية مثل حيفا وما بعدها، والتي قصفت بصواريخ رعد وزلزال، مرتبطة بالقيادة العليا بناء على معطيات عدة منها استمرارية جلب المعلومات الدقيقة التي كانت تتم من خلال المراصد والدوريات والتي تتواصل بدورها مع قياداتها بشكل دائم، وتمدها بكل المعطيات التي بحوزتها. بعدها يتم الاتصال بالوحدات الأرضية بعد تزويدها من قبل قيادتها بالإحداثيات، لتطلق اثرها دفعات من الصواريخ في وقت واحد على الأهداف المحددة. يتابع: »المحور الرئيس في هذا العملية هو عامل الاتصال فالفعل وردة الفعل مرتبطان به أيضا، وفي حال فقدانه تصبح القيادة عمياء كونها ستفتقد إلى مبدأين أساسيين من مبادئ الحرب، هما الضبط والسيطرة. وفي أصول الحرب يتم الاعتماد على عنصر أساسي هو وحدة القيادة التي أثبتت تماسكها وفعالية التنسيق بينها في محطات عدة خلال الحرب منها أثناء الهدنة حيث لم يطلق أي صاروخ أو إجراء أي اشتباك. كما بعد الهدنة حين أطلقت المقاومة في نحو ٣٠٠ صاروخ في يوم واحد«.
يضيف الضابط: حاول العدو جاهدا تصفية القيادة لفصلها عن عناصرها، وقد كانت عمليات القصف الجوية المركزة للضاحية الجنوبية دليلا واضحا على ذلك. أما صواريخ الكاتيوشا فكانت ترمى بعد التنسيق والتواصل المباشر مع القيادة الميدانية المرتبطة بشكل دائم بالقيادة العليا.
ويروي ضابط الاشارة »ملاك« (اسم مستعار) أنه خلال المواجهات في منطقة فرون والغندورية حرصت قيادة المقاومة على إبقاء خطوط الاتصال السلكية مع المقاتلين وإمدادهم بالعتاد والعناصر، بالرغم من ضراوة المعركة وشدتها وتعرض عناصر الإشارة التي تقوم بوصل الخطوط المقطعة للقصف المدفعي وعدد من الغارات الجوية، بهدف تجنيبهم استخدام الوسائل اللاسلكية للحفاظ على حياتهم. ويذكر »ملاك« انه في بعض المناطق استشهد بعض القيادات بعد أن فقدوا الاتصال مع عناصرهم اثر تعذر وصلها مما اضطرهم لاستخدام أجهزة الاتصال اللاسلكية المحمولة مما أدى إلى كشفهم فورا من قبل طائرات الاستطلاع الإسرائيلية، التي قامت على الفور بقصف أماكن تواجدهم وتدميرها. كما ان العدو تمكن أيضا من اختراق الشيفرة الخاصة »بالباجر« الذي حمله المقاومون، مارس حربا نفسية عليهم من خلال بعثه رسائل لهم يدعي فيها انه يعرف أسماءهم ومكانهم وأنه سوف يقوم بقتلهم إذا لم يسلموا انفسهم«.
ملاك يقول إن عناصر الإشارة كانوا كالاستشهاديين، نظراً لخطورة العمل الذي يقومون به، فهم مضطرون للعمل حتى في أحلك الظروف العسكرية، حيث ان عناصر الاشارة كانوا يعملون تحت انظار طائرات التجسس. وملاك نفسه نجا من خمس غارات جوية أثناء وصله القيادة ببعضها. وهناك بحسبه اكثر من ١٢ شهيدا قضوا في الحرب بمختلف المناطق وهم يقومون بوصل الخطوط.
وينفي ملاك أن تكون للشبكة أي استخدامات مدنية، بل محض عسكرية، مضيفا انه لولا الضرورات العسكرية لما كانت المقاومة بوارد تطويرها خصوصا أن تكلفتها عالية جدا، فضلا عن استهلاكها للعنصرين البشري والمادي، أي بعبارة أوضح »استهلاك دون مردود«. ويضيف الضابط ان المناطق المربوطة ببعضها بشبكة الاتصالات محدودة ومقتصرة فقط على القيادات والاماكن الخاصة بهم، ويضيف أن الأعمال الظاهرة التي تقوم بها المقاومة من خلال مد الشبكة في بعض القرى والمناطق ما هي إلا عملية تمويه تعتمدها لحماية الشبكة لتحجب عن عيون الاسرائيليين الوجهة الحقيقية للخطوط، وعن إمكانية التنصت يجيب ان الأمر ممكن، لكن بشكل محدود جدا.
تنصت مضاد
تقول دراسة عن الحرب أعدها مديرا منتدى النزاعات، الاستر كروك المسؤول السابق في المخابرات البريطانية »M16« ومستشار شؤون الشرق الأوسط السابق للممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي خافيير سولانا، ومارك بيري الكاتب والمحلل المتخصص في الشؤون العسكرية والاستخباراتية والسياسة الخارجية: »قدم وقف إطلاق النار الدليل الأول على نجاح الحزب في الصمود أمام الهجمات الجوية الإسرائيلية ونجاح مخططه لدفاع متواصل وطويل الأمد عن جنوب لبنان.
احترم القادة العسكريون لحزب الله وقف إطلاق النار بأمر من قيادتهم السياسية، وباستثناء حادثة فردية او اثنتين لم تطلق أية صواريخ على إسرائيل خلال فترة وقف إطلاق النار. وبينما تجاهل خبراء الاستخبارات في إسرائيل والغرب قدرة المقاومة على وقف إطلاق النار فعليا، جاءت قدرتها على فرض الانضباط على قادتها الميدانيين لتشكل بوضوح صدمة غير مرغوب فيها لقيادة الجيش الاسرائيلي، التي استنتجت أن تجهيزات الاتصالات الخاصة بالحزب قد نجت من الهجمات الجوية، وأن قيادة المقاومة كانت على اتصال دائم بالقادة الميدانيين، وهو أمر ضروري في الجيوش الحديثة التي تخوض معارك معقدة تقنيا. والمقاومة كانت قادرة على الاحتفاظ بشبكة اتصالات محكمة، برغم الممانعة الإسرائيلية.
تتابع الدراسة: في المقابل، طور قادة المقاومة على مدى سنتين فقط، قدراتهم للتنصت على الإشارات اللاسلكية للعدو فكانوا قادرين طوال مدة الحرب على التنبؤ بالزمان والمكان الذي ستهجم فيه المقاتلات والقاذفات الإسرائيلية. وكان لهذا أيضا الأثر الحاسم على الحرب البرية من خلال اعتراض وقراءة التحركات الإسرائيلية. كما أتقن مسؤولو الاستخبارات في المقاومة القدرة على التجسس على الإشارات، إلى درجة مكنتهم من اعتراض الاتصالات الأرضية بين القادة العسكريين الاسرائيليين، الذين استخفوا بقدرات المقاومة على إجادة تقنيات مضادة للتقنيات الإسرائيلية الفائقة التطور القائمة على »القفز بين الترددات«، وكان لهذا تأثير جوهري على حسابات إسرائيل المعتمدة على أن المفاجأة وحدها تمنح جنودها النصر«.
تاريخ الشبكة
في العام ١٩٨٧ اسست شبكة الاتصالات مقتصرة على بعض النقاط والمراكز العسكرية في جبل صافي والتلال المحيطة به وفي العام ١٩٩٢ طورت الشبكة لتشمل بعض قرى إقليم التفاح التي كانت تعتبر محاور متقدمة وخطوط تماس مع اسرائيل، إضافة الى الضاحية حيث مراكز القرار للمقاومة. وقبل التحرير اتسعت الشبكة الى قرى إضافية مقتصرة على النقاط والمراكز العسكرية ومنازل القيادات ولكنها لم تكن متصلة ببعضها البعض. وفي العام ٢٠٠٠ طورت بشكل كبير لتشمل مناطق الشريط الحدودي السابق ومعظم مناطق المواجهة مع إسرائيل في جنوب الليطاني وشمال النهر والضاحية، وهي مستمدة من التجربة الإيرانية بالدرجة الأولى ومن الحروب التي خاضتها إسرائيل في السابق. واستفادت المقاومة في شكل رئيسي من خبرات شبانها الهندسية في تطوير الشبكة، كما استفادت من الشبكة الاسرائيلية التي كان تستخدم أثناء الاحتلال للشريط الشائك، كما استفادت المقاومة ايضا من التقنيات الإسرائيلية المتعلقة بها.
تعليقات: