عشرات الاعتداءات العنصرية على اللاجئين السّوريين بحجة انهم يقاسمون اللبنانيين حقهم بالخبز (Getty)
بعد أن التقط الناس المأزومون في شرق لبنان، وتحديدًا في منطقة بعلبك- الهرمل، أنفاسهم بعد شهر طويل من التوترات الأمنية والنزاعات المُسلحة، عادت مشاهد مهانتهم الاقتصادية والمعيشية تجتاح يومياتهم: من طوابير الخبز والمحروقات، إلى قلة أوقات التغذية الكهربائية والمنعدمة أحيانًا، فضلًا عن انقطاع المياه والأزمة الزراعية. ويبدو هذا نتيجة حتمية جامعة للسّيناريوهات المحتملة التّي انبثقت بُعيد إعلان نتائج الانتخابات في محافظة بعلبك- الهرمل. فيما تغيب السّلطات الرسمية غيابًا تامًا، مكتفية بمحاولاتها العبثية تجميل الواقع بحلولها الترقيعية، ومنها عودة المغتربين بدولارتهم لإنقاذ البلاد من إفلاسها، متلافيةً الخوض جديًا في عمق الأزمات المتلاحقة.
طوابير الخبز
زحمة وطوابير، هذه حال مئات الناس يوميًا في مدينة بعلبك وجوارها، من الفئات والأعمار كافة، في انتظار دورهم منذ ساعات الفجر الأولى، لشراء ربطة خبز من الأفران، بعدما قلصت كميات توزعها اليومية على المحال التجارية، لتتوقف أخيرًا نهائيًا عن التوزيع والانتاج، بحجة نقص مادة الطحين والقمح، رغم دعم الحكومة المقدر بكفايته الأفران لشهر إضافي.
وأعلنت أفران شمسين في بعلبك أمس الثلاثاء 28 حزيران توقفها عن العمل، بسبب نفاذ كميات الطحين التي تتسلمها يوميًا من حصتها الشهرية البالغة 525 طناً شهريًا لثلاثة فروع في المنطقة: بدنايل وكسارة وبعلبك. فهي لم تتسلم سوى 270 طناً، أي نصف حصتها من الطحين المدعوم المخصص لصناعة الخبز، وهذا يعادل تقريبًا 10 أطنان يوميًا لا تكفي جزءًا ضئيلًا من حاجة السّوق. فيما باتت القدرة التشغيلية لفرن نصرالله لا تكفي لسد العجز الحاصل، علمًا أن لا أفران أخرى لإنتاج الخبز العربي في المنطقة.
ويعد الاحتكار سببًا أساسيًا للأزمة المستجدة في المنطقة، فيما تغيب أجهزة الرقابة وحماية المستهلك عن دورها في قمع التجار الطامعين بتكديس الثروات. وانتشر في السّوق السّوداء بيع بونات الطحين المدعوم، التّي تتسلمها الأفران لإنتاج الخبز العربي، بحوالى 850 دولاراً للطن.
وتجاوز سعر ربطة الخبز في السوق السوادء، 30 ألف ليرة، أي ما يعادل الضعف أو أكثر من سعرها الرسمي، ناهيك عن كلفة التنقل للوصول إلى الفرن، والذي يترواح ما بين 150 إلى 300 ألف ليرة، في ظل غياب المواصلات العامة التّي تربط البلدات ببعلبك. وهكذا باتت كلفة ربطة الخبز المقننة- إذا تمكن المواطنون من شرائها من الفرن أو السّوق السوداء- مهانة اقتصادية فادحة، لتأمين قوت أسرته المفقرة أصلًا.
عنصرية وسوق سوداء
حاول عدد كبير من أهالي القرى والبلدات البقاعية مواجهة أزمة الخبز، بإنتاجه وخبزه ذاتيًا في المنازل. لكنهم يواجهون صعوبة في تأمين الطحين بعد فقدانه من السوق. وإن وجد في السّوق السّوداء فقد يترواح سعر الكيلو منه 3 دولارات على أقلّ تقدير. وبات لوم اللاجئين والأجانب والكراهية والعنصرية، منهجًا يعتمده سواد الناس. وقد سجلت في خضم أزمة الخبز في بعلبك عشرات الاعتداءات العنصرية على اللاجئين السّوريين، بحجة أنهم يقاسمون المواطنين حقهم في ربطة الخبز.
وهذا ما بات اعتياديًا، يبدأ بالسّخرية والفوقية، ويتطور إلى اعتداءات لفظية وجسدية تصل إلى الضرب والطرد من الطوابير. وانتشرت دعوات وحملات على وسائل التواصل تدعو إلى طرد اللاجئين من مساكنهم المؤجرة، ومنعهم من التّسوق في المحال التجارية وترحيلهم من البلدات والقرى. وتفيد الأقاويل أن اللاجئين السورين يعمدون لشراء الخبز وبيعه في السّوق السّوداء، أو على بسطات جانبية بسعر أعلى من السّعر الرسمي.
قمح مكدس
تستفحل أزمة الطحين والقمح في البقاع، نظرًا لنقصهما أحيانًا وفسادهما أحيانًا أخرى. وتتغاضى السّلطات عن وجود بديل محليّ للاستيراد، والتوقف عن التذرع بالأزمات الخارجية، كالأزمة الروسية- الأوكرانية التّي زعمت أنها أدت إلى تناقص المواد الأولية، وتدفع مبالغ كبيرة بالعملة الصعبة التّي تدعي شحها لشراء القمح. هذا فيما موسم حصاد القمح بنوعيه (القاسي: يُستعمل لصناعة الحلويات والبرغل. والطري: يستعمل لإنتاج الخبز) بدأ في البقاع منذ منتصف شهر حزيران الجاري، ويستمر عادةً حتى أواخر آب.
وصرح رئيس تجمع مزارعي البقاع ابراهيم ترشيشي سابقًا "أن محصول هذا العام جيد وكمياته مقبولة جدًا، رغم عدم تشجيع الدولة على زراعته. وتوقع إنتاج ما بين 50 إلى 60 ألف طن هذا العام". ولم تبد السلطات اللبنانية نيتها استغلال هذا المورد الحيوي الذي قد يشكل مخرجًا جزئيًا ومؤقتًا لأزمة الطحين في جميع الأراضي اللبنانية. فبدل شرائه، أصدرت قرارًا بمنع تصديره، وفق اتفاقيات قديمة ومحاصصات سياسية أدت لشلل قطاع الزراعة. وهكذا أجبرت المزارع على تصريف محاصيله علفًا للحيوانات، أو بيعها لتجار محتكرين في السوّق السّوداء، أو تهريبها إلى خارج الأراضي اللبنانية.
وقد تجمع عدد من المزارعين في سهل بلدة سرعين، وناشدوا الدولة وقف سياساتها الإقصائية، فيما طالب أمين العلاقات العامة في اتحاد النقابات الزراعية في لبنان علي شومان، المسؤولين بإيجاد حلول فعلية للتخفيف من معاناة المزارعين، الذين باتت تكاليف زراعتهم أكبر من مداخيلها، وطالب بفتح الأسواق الخارجية للتصدير، وخصوصًا إلى المملكة العربية السعودية.
أزمة كهرباء وعشائر تحتكرها
تغرق معظم القرى والبلدات والمدن البقاعية بالعتمة الشاملة منذ أشهر، وفي أعقابها شح المياه. وانتشرت أمس الدعوات إلى تظاهرة أمام سراي بعلبك، احتجاجًا على الوضع المعيشي المتأزم في البقاع. لاسيما بعد موجات انقطاع الكهرباء الدائم منذ أكثر من سنة، وإنخفاض ساعات التقنين إلى ساعة واحدة كل خمسة أيام. واتت الاشتراكات عبئًا كبيرًا على الناس، فأجبر معظمهم على وقفها نتيجة تفلت أسعارها. وعلى الرغم من هذا كله أُلغيت الوقفة الاحتجاجية.
وفسر مصدر متابع "للمدن" سبب إلغائها قائلًا: "دائمًا ما تُلغى هذه الدعوات، وخصوصًا المتعلقة بالكهرباء، بسبب أن شركة الكهرباء موجودة في حيّ الشراونة أو حيّ الجعافرة الشهير. وهي باتت ملكًا للعشائر، بوضع يدها عليها وتشغيلها لصالحها طيلة النهار، حارمة المدينة والجوار من الكهرباء. وتهدد العشائر بحرق الشركة، إذ حاولت السّلطات استعادتها. لذا عادةً ما تقتصر الاحتجاجات أمام بلدية بعلبك وبوداي، مخافة هجوم العشائر المسلحة على المتظاهرين.
ويبرر البعض انقطاع الكهرباء الدائم بربط محطة تحويل بعلبك الرئيسية بمعمل الزهراني الحراري، الذي انخفض إنتاجه إلى حوالى 70 ميغاوات. وهذا بعدما عزلت منطقة بعلبك ما يقارب السنة عن معمل دير عمار، عقب إسقاط الرياح العاتية عمود التوتر 220000 K. V. A في محلة دير نبوح بين منطقتي القبيات والهرمل. لكن السبب الحقيقي يكمن في النزاع المستمر منذ أكثر من سنة على تكليف متعهد لتركيب عمود توتر في دير نبوح.
صهاريج المياه للمقتدرين
أما عن المياه المقطوعة منذ أكثر من شهر، فبات شراؤها عبئًا مضافًا في سجل الدفوعات التّي يتكبدها الناس. فمولدات الضخ تعتمد بغالبيتها على التيار الكهربائي في عملها أو على المحروقات. وفي ظلّ غياب الوسيلتين، باتت معظم قرى وبلدات البقاع بلا مياه. ولجأ الأهالي لشراء صهاريج المياه التّي تتراوح كلفتها بين 400 ألف ومليون ليرة أسبوعيًا.
هذا فيما افتتح محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر، ممثلًا بالمهندس جهاد حيدر، مشروع إعادة تأهيل وتحديث محطة ضخ المياه في نبع الفاكهة، الممول من السفارة السويسرية في لبنان بقيمة 350 ألف دولار أميركي. ويتضمن المشروع استبدال المضخات القديمة بمضخات جديدة تعمل على الطاقة الشمسية مع لوحات تحكم ذكية.
سلطة عمياء.. وسياحة!
كل هذه الأزمات لم ينقصها سوى سوريالية الإعلان عن الموسم السّياحي الواعد الذي تنطحت به السّلطة اللبنانية، وحثت اللبنانيين على رؤية النصف الممتلئ من الكأس. وهي طالعت البعلبكيين باحتمال نجاح مهرجانات بعلبك السنوية، التي أثبتت مرارًا أن المستفيديين منها من خارج المحافظة، من جمعيات وممولين وغيرهم. فيما ينسحق سكان بعلبك- الهرمل تحت عجلة السّلطة الفاسدة التّي لم تعبأ قط بمطالبهم، بل همشت ميزات منطقتهم الطبيعية والزراعية على حساب السّياحة المهددة أصلًا، بإقصائها المتعمد للمنطقة وسكانها وإرتهانها لسلطة الأمر الواقع. وباتت معالجة شؤون البقاعيين بحلول سطحية وترقيعية مصدرًا لتبرم السكان، فضلًا عن إهمالها اللاجئين السّوريين، الذين استفادت من أزمتهم على كل الصعد، وجعلتهم رهينة عنصرية المقيمين.
تعليقات: