يحنّ العراسلة إلى الشام ولسان حالهم: لا بد من دمشق وإن طال السفر. عرسال الغارقة في الحرمان، شأنها شأن جاراتها الشيعية والمسيحية، اللبوة والعين والراس، استفاقت من «سكرة الثورة السورية»، لتجد نفسها حيث كانت قبل 2011: بلدة منسية على سفوح السلسلة الشرقية، فيما من غالوا في دفعها إلى أحضان «الثورة» لم يعد أحد منهم يتذكرها اليوم
في الطريق صعوداً من بلدة اللبوة، يستقبلك قوس حديدي كبير رُفعت على يمينه عبارة «I love irsal». أحد ما، جمعية ما من تلك الكثيرة التي تعمل في المنطقة وتتكسّب على ظهور سكانها والنازحين إليها، أقنعت معظم بلدياتها بـ«الفوائد السياحية» لهذا المشروع «الإنمائي» القائم على: «...I love»، إذ يكاد لا يخلو مدخل أي قرية بقاعية من الأحرف الأجنبية نفسها وبالألوان نفسها.
تطلّ عرسال وجرودها على السهل الممتدّ من بعلبك إلى رأس بعلبك. على مسافة نحو 40 كيلومتراً، جبال جرداء تنخرها المقالع والكسارات والمناشر. في الطريق إلى البلدة التي تضم نحو 40 ألف نسمة، وما يعادلهم من النازحين السوريين، شجيرات خضراء متناثرة، وأذكار دينية كُتبت على لافتات خضراء موزّعة على الطريق المعبّد، إضافة إلى لافتات بيضاء ضخمة خُطّت عليها أسماء مؤسسات أجنبية مانحة بالتعاون مع أُخرى لبنانية ساهمت في إنجاز مشاريع في المنطقة. لوحات الطاقة الشمسية تغطي خيماً زرقاء يسكنها النازحون الذين أقاموا مخيماتهم في مساحات جرديّة شاسعة.
يختلف المشهد بعد حاجز الجيش عند مدخل البلدة. الأراضي الشاسعة تتحوّل أزقة ضيّقة ووعرة بالكاد يتسع بعضها لآليات الـ«توك توك» المنتشرة في كل مكان. بيوت ومبانٍ عشوائية ما زالت «على الباطون» يتّكئ بعضها على بعض.
عرسال النائمة على سفح سلسلة جبال لبنان الشرقية لا يستذكرها أحد إلا في الأزمات وفي الانتخابات. قبل الحرب الأهلية وخلالها، تنافست عليها الأحزاب الوطنية بسبب موقعها الاستراتيجي وكثرة المتحمّسين والمقاتلين فيها. بعد انتهاء الحرب عادت إلى سُباتها الذي استفاقت منه عقب استشهاد الرئيس رفيق الحريري الذي لم يُعرف عنه اهتمام بها. فيما تعامل معها الحريري الابن «على القطعة». شارك أهلها في التحركات السياسية بعد عام 2005 واقترعوا بكثافة لـ«ابن الشهيد»... من دون مقابل أيضاً.
تتذكر «أم محمد» الحجيري أن الرجل «وعدنا بفرص عمل وتحسين أوضاعنا المعيشية، لكنه أقفل المستوصفات والمؤسسات التابعة لتيار المستقبل في البلدة».
هنا، لا مستوصفات حكومية ولا مستشفيات باستثناء مستشفى عودة الخاص الأقرب إلى مستوصف. «نموت على الطريق»، تقول «أم حسين» الأطرش، إذ إن أقرب مستشفى يمكن التوجه إليه يقع في بعلبك (على بعد أكثر من 35 كيلومتراً) أو في زحلة التي تبعد أكثر من 70 كيلومتراً. والأمر نفسه ينطبق على الجامعة اللبنانية التي يقع أقرب فروعها في زحلة، فيما تضم البلدة 12 مدرسة ابتدائية وثانويّة.
«الغالبية العظمى من أبناء البلدة تعيش وتعمل فيها»، يقول مسعود عز الدين مؤكداً أن الأزمة الاقتصادية تؤثر على عرسال أكثر من أي بلدة أُخرى، مع الشلل الذي ضرب قطاعها الإنتاجي الأهم: مناشر الأحجار. هنا يندر أن تجد عائلة لا تعمل في المقالع أو في بيع الأحجار ونقلها إلى خارج البلدة. كل هؤلاء اليوم شبه عاطلين عن العمل، إذ إن البلدة لم تلتقط أنفاسها منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011. ما إن تحررت جرودها من الجماعات الإرهابية حتى عاجلتها الأزمة الاقتصادية وارتفاع سعر صرف الدولار وأسعار المازوت.
ما ينطبق على تجارة الحجارة ينسحب على الزراعة التي كانت تُعد أحد أهم مقوّمات الاقتصاد العرسالي، وكانت تدرّ سنوياً نحو مليار و500 مليون ليرة لبنانيّة، بحسب آخر إحصاء لجمعية التنمية الريفية في عرسال بالتعاون مع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، إذ كانت البلدة وجرودها عام 2012 تضمّ أكثر من ثلاثة ملايين شجرة مثمرة خصوصاً الكرز والمشمش، تناقصت اليوم، بحسب خالد البريدي، إلى أقل من مليونين بعد احتلال المسلحين للجرود ومنع أصحابها على مدى 5 سنوات من الاعتناء بها، ما أدى إلى تلف أكثر من مليون شجرة. ويوضح البريدي أنّ منع تصدير الفواكه إلى الخليج أثّر أيضاً في قطاع الزراعة، خصوصاً أن لا إمكانية لدى السوق المحلي لاستيعاب الكميات التي تنتجها الأراضي العرسالية بالإضافة إلى قلّة الأرباح. وتلفت نائبة رئيس البلدية ريما كرنبي إلى أن الأهالي باتوا يتجهون اليوم نحو زراعة الخُضر الحديثة العهد بالنسبة إليهم، بعدما قدّمت إحدى الجهات المانحة قبل عامين تقريباً 41 خيمة زراعية. ولأن التجربة كانت ناجحة اعتمدها كثيرون من الأهالي الذين يزرعون فيها جميع أنواع الخُضر.
مليون شجرة مثمرة من ثلاثة ملايين أُتلفت بعد احتلال المسلحين جرود البلدة
الضربة الكبرى للاقتصاد العرسالي مردّها إلى تراجع قيمة رواتب موظفي القطاع العام الذين يشكلون 20% من «العراسلة»، وغالبيتهم من العسكريين وأساتذة التعليم الرسمي، وهؤلاء، وفق كرنبي، كانوا «من دعائم الدورة الاقتصادية في البلدة، على اعتبار أنّهم قاموا بإعمار منازلهم وتقديم المساعدات المالية لعائلاتهم، فيما يحتاجون اليوم إلى من يساعدهم». ما يساعد جزئياً على مواجهة الانهيار وجود نحو 1300 موظف يعملون لدى جمعيات غير حكومية ويتقاضون رواتبهم بالدولار، رغم أن معظمهم لا يتقاضى رواتب عالية نظراً إلى مراكزهم الوظيفية.
لا تهريب
وإلى القطاعات «الشرعية»، يحنّ «العراسلة» إلى زمن «الحدود المفتوحة» مع سوريا. يقول أحد المهرّبين: «كنا نهرّب كل شيء. كان هذا مصدر رزقنا الأول والأخير». اليوم «مسكّرة»، لافتاً إلى انتشار أكثر من 9 آلاف جندي لبناني على الحدود، ناهيك عن وجود سواتر ترابية وكاميرات مراقبة على طول الحدود. ما يمنع «تهريب قشة كبريت»، من دون أن ينفي أن بعض المهربين «يعملون بشكل فردي وبحسب المواسم. لكن، إجمالاً، التهريب خفيف جداً ولم يعد يدرّ أرباحاً». فيما يؤكّد آخر من «أبناء الكار» أن «التهريب معكوس اليوم من سوريا إلى لبنان، خصوصاً للبضائع الآتية من الصين مثلاً، بسبب انخفاض كلفة الجمارك والإعفاءات التي تقدّمها بعض البلدان لسوريا».
ما من عائلة واحدة في عرسال لم تتأثر بالأزمة السورية. تقول سلوى أمون: «كنا نتبضّع كل حاجاتنا من سوريا: خُضر ولحمة ودجاج ومواد التنظيف وأغراض المنزل». وتضيف: «كل شيء كان أرخص. سوريا أقرب لنا من بعلبك، لذلك كنا نستسهل الذهاب إليها حتى للتنزّه أو السهر».
كلّ ذلك، يثير ندماً لا يتردّد كثيرون من أبناء البلدة في الجهر به بعدما فتحوا منازلهم للمسلحين المعارضين لدمشق يوماً قبل أن يكتشفوا أنهم ذهبوا «فرق عملة» في السياسة وأنهم وحدهم من دفع الثمن باهظاً. لذلك، يرغب كثيرون في «تبييض سجلّاتهم» وإعادة «تطبيع» العلاقة مع دمشق، وينخرط عديدون من أجل ذلك في سرايا المقاومة أو يجدّدون انتسابهم إلى حزب البعث العربي الاشتراكي.
الأمر ليس على صعيد الأفراد فحسب. لا تخفي كرنبي أنّها سعت مع رؤساء الأجهزة الأمنيّة إلى إعادة فتح معبر الزمراني الذي يربط عرسال بسوريا عبر 7 قرى حدودية. تشير إلى أنّ الطريق عبر الزمراني جاهز نسبياً ومعبّد في غالبيّته، إلا أنه يحتاج إلى توافق سياسي وقرار من مجلس الوزراء، خصوصاً أن بعض الجهات الأمنيّة ترفض فتحه باعتبار أنّها لا تريد أن يكون لكل طائفة معبرها. في حين ينقل البعض رغبة القيادة السوريّة بفتح المعبر، خصوصاً أنّها تعتبر عرسال هي مدخلها اللبناني.
نساء عرسال
على عكس الصورة النمطية، مشاركة النساء في الحياة العامة داخل عرسال لافتة جداً. ريما كرنبي واحدة من المؤثّرات وصانعات القرار المحلي. وقت كرنبي ممتلئ بين وظيفتها وواجباتها تجاه أبناء البلدة قبل أن تعود إلى منزلها على إحدى التلال عند أطراف البلدة، حيث تقيم أرملة القيادي الراحل في الحزب الشيوعي اللبناني عبد العزيز الفليطي مع أولادها الخمسة.
تعرف كرنبي كل شاردة وواردة في البلدة. بشخصيتها القوية، تدقّ نائبة رئيس البلدية كل الأبواب بغية تحصيل شيء من حقوق أهالي بلدتها. هي المتحدّث الرئيسي في حال اجتمعت كلّ فاعليات البلدة. تؤكد أن كونها امرأة يسهّل عليها عملها وقول الكثير مما لا يجرؤ كثير من الرجال على قوله، بالإضافة إلى أنها تتصرف في كثير من الملفات من خلفيتها كأمّ.
يزور كثر من أهالي عرسال منزل كرنبي للوقوف على رأيها في العديد من الملفات. تدرك «أم عمر» أن أداء البلديّة أثّر كثيراً على صورتها، هي التي أتت إلى المجلس البلدي بأعلى نسبة من الأصوات. ورثت الكثير من علاقاتها عن والدها مختار البلدة، إضافة إلى أن زوجها الراحل هو من أكثر الأشخاص الذين شجّعوا خطوة خوضها غمار الشأن العام. تستذكر كرمبي أن ترشيحها في بداية الأمر لم يكن جدياً، بل أرادت منه تشجيع النساء على الترشح لكسر الصورة النمطيّة عن بلدتها بعد الأحداث المسلّحة التي جرت فيها.
المخدّرات تجتاح «العراسلة»
يؤكّد معنيون في عرسال أن نسبة كبيرة من الشبّان الذين لا تتعدّى أعمارهم الـ15 عاماً باتت مدمنة على حبوب الكبتاغون المُخدّرة، وأن هذه الآفة ضربت نسبة لا بأس بها من النساء أيضاً. ويوجد في البلدة أكثر من مصنعٍ للكبتاغون، اثنان منها على الأقل يعرف كل الأهالي عنوانيهما وأسماء مالكيهما. ويؤكد أهالي البلدة أن معظم هؤلاء من السوريين الذين نقلوا مصانعهم بمعداتها من سوريا إلى لبنان بعد الحرب، وبينهم واحد من أكبر تجّار المخدّرات تم توقيفه قبل أن يُخلى سبيله قبل أشهر ويعود إلى «عمله».
ويؤكد مسؤولون في البلدة أن لا قدرة لهم على التضييق على مالكي هذه المصانع بسبب نفوذهم، لافتين إلى أن لدى قيادة الجيش معلومات مفصّلة عن عناوينهم وعشرات الشكاوى المقدّمة من فاعليات البلدة وأعضاء بلديتها.
تعليقات: