سريعاً غيرت الأزمة الراهنة حياة اللبنانيين الاجتماعية، فلم تعد عادات المجتمع وتقاليده على حالها، لاسيما الأعراس. وليس سبب التحول هنا هو الجنوح إلى عاداتٍ مختلفة، بقدر ما هزت الأزمة الاقتصادية البنية الاجتماعية، ففقدت كثرة من الناس القدرة على تحمل تكاليف إحياء أعراسهم. وتجنباً لإلغائها، لجأ اللبنانييون إلى بدائل متاحة، فتحولت الأعراس مناسبات "عالضيق"، وانتقلت من الصالات الواسعة إلى سطوح البنايات وبيوت العائلات، وأحياناً إلى الشارع.
حلول بديلة
تروي العروس ريما (29 عاماً) تفاصيل زفافها بعدما أجبرت على إلغاء حفل زفافها بسبب عدم قدرتها على تحمل كلفة صالة أعراس وتوابعها. وقررت بالاتفاق مع خطيبها، الإستعانة بشباب عائلتها لزفتها من أمام منزلها إلى بيتها الزوجي. وهذه ليست المرة الأولى لاعتماد عائلة العروس زفة شعبية أمام منزلها. فشقيقتها وبعض بنات أقاربها تزوجن وفق الأسلوب نفسه العام الماضي: استئجار طبلٍ ومزمار وبعض الآلات الموسيقية بمبلغ لا يتعدى 600 ألف ليرة. وارتدى شبان العائلة زياً موحداً، فرافقوا العروسين حتى انتهاء الحفلة. واستعانوا بمصور لالتقاط 10 صور فقط مقابل 50 دولاراً.
وهروباً من تكاليف الصالة، أحيا العروسين الحفلة في بيت عمة العروس بسبب اتساعه، واقتصر الحضور على العائلتين وأقاربهما، وعدد قليل من الأصدقاء. واكتفت ريما بخاتم ذهبي بلغت قيمته 160 دولاراً، متخلية عن عادة شراء "الصيغة"، لتستطيع تأمين مستلزمات بيتها من آلات كهربائية ومفروشات. وتضيف: "لم نشعر بالحرج قط، بل جمعنا أفراد العائلة وطلبنا منهم مساعدتنا بمبالغ مالية، أو بشراء بعض الأدوات الكهربائية، فتعاونوا معنا. منهم من قدم 200 ألف ليرة، وبعضهم قدم 200 دولار. واكتفينا بتقديم ضيافة بعض حبات الشوكولا وأكواب العصير. ولجأت لصديقتي التي عرضت تقديم فستان زفافها القديم، فعدّلت عليه بعض التفاصيل الصغيرة. أما عريسي فاستعان ببزته الرسمية التي اشتراها لمناسبة خطوبتنا عام 2019".
تنازلات ومفاوضات
وتشرح إدارة صالة الأمير في بيروت لـ"المدن"، أن الأزمة الاقتصادية قضت على الطبقة المتوسطة، بعدما صارت تكاليف العرس تحسب بالدولار فقط. ويحاول العروسان الاستغناء عن عادات شائعة غير ضرورية في هذه الظروف، كالألعاب النارية، العشاء، الورود. ودرج الإكتفاء بايجار الصالة خالية وتقديم قطع من الحلوى. وعلى الرغم من هذه التنازلات ومفاوضة أصحاب الزفة إدارة الصالات، تظل الكلفة مرتفعة. فبعضهم ألغوا أعراسهم وزواجهم بسبب ارتفاع أسعار المفروشات. أما البعض الآخر فاكتفى بزفة صغيرة أمام منزل أهل العروس. فيما اقتصرت الأعراس على أصحاب الدخل المرتفع: أي العريس المغترب أو من يتقاضى راتبه بالدولار.
تكاليف باهظة
يتفاوت إيجار صالات الأعراس بين منطقة وأخرى. وفي جولة "المدن" على بعض الصالات الشعبية في الأوزاعي وأطراف ضاحية بيروت الجنوبية وصولاً إلى الدامور، تبيّن أنها تبدأ من 700 دولار وترتفع لتصل إلى 4000 دولار في الصالات الفاخرة. أما تكاليف الورود التي تزين الطاولات، فتبدأ من 300 لتصل إلى 1000 دولار. ويبلغ سعر باقة الورود الخاصة بالعروس 70 دولاراً، و200 دولار للباقة المزينة بحبات اللؤلؤ والكريستال وبعض أنواع الزهور الطبيعية كالأوركيد والتوليب والجوري.
وتختلف أسعار المأكولات بين صالة وأخرى. فصحن المأكولات للشخص الواحد يكلف 18 دولاراً في الصالات القائمة على أطراف الأحياء. أما تلك القائمة على خط الدامور فيتراوح سعر الصحن بين 25 و35 دولاراً للشخص الواحد. ويرتفع السعر في حال اختيار المأكولات البحرية. أما قوالب الحلوى فتبدأ بـ100 و150 دولاراً للقالب الخالي من أي زينة. وتلك الكبيرة المتعددة الطبقات والمزينة بالورود، فيصل سعرها إلى 600 دولار.
تبلغ كلفة الزفة الشعبية مئة دولار، يشارك فيها 3 شبان يحملون طبلاً ومزماراً، فيتقدمون العروسين لبعض الوقت أمام منزل أهل كل منهما. أما الزفة الفاخرة فتبلغ تكلفتها 400 دولار يتعدى فيها عدد شبان الفرقة 8 أشخاص، يرتدون زياً موحداً فلكلورياً، ويقدمون رقصات شعبية إلى جانب الدبكة اللبنانية إضافة إلى بعض مفرقعات أثناء دخول العروسين إلى الصالة.
ويتراوح إيجار فستان الزفاف الأبيض للعروس بين 400 و500 دولار. وإذا اختارت العروس تصميم فستان خاص بها وتابعت تجهيزه لأشهر ريثما ينتهي، فإنها بحاجة إلى مبلغ يتراوح بين ألف دولار ويصل إلى خمسة آلاف وما فوق، حسب نوع القماش وحبوب التطريز وغيرها. وتطلب صالونات تزيين النساء ما لا يقل عن 200 دولار لتجهيز العروس بالميك آب وتصفيف شعرها. أما سعر البزة الرسمية للعريس فتبدأ من 200 لتصل إلى 600 دولار، حسب الماركة المطلوبة ونوع المحل.
وإذا أراد العروسان تصوير زفافهما والاستعانة بمصور لالتقاط الصور، فيحتاجان إلى ما لا يقل عن 300 دولار. أما إذا قررا تصوير فيديو فترتفع الكلفة إلى ما لا يقل عن 500 دولار.
فئات الزبائن
يشير محمد شاهين، وهو صاحب محل مجوهرات في منطقة الضاحية الجنوبية، إلى أن أسعار الذهب لم تتغير، وبقيت على حالها. وهناك نوعان من الزبائن في الوقت الراهن: النوع الأول يتمثل بعروسين من أصحاب الدخل المحدود، العاجزين على شراء طقم من الذهب كاملاً، فيكتفيان بخاتم ذهبي يتراوح سعره بين 150 و200 دولار، إضافة إلى عقد رفيع لا يتعدى سعره 200 دولار، وخاتم فضي للعريس لا يكلف أكثر من 50 دولاراً.
أما النوع الثاني فيتمثل بالعريس المقتدر مادياً، فيشتري طقم الذهب الذي يختلف سعره حسب الوزن والعيار، ولا يقل عن 1800 دولار، وصولاً إلى آلاف الدولارات. ومنهم من يختار طقم من الذهب المزين بعشرات الليرات الذهبية، فيتعدى سعره 4 آلاف دولار، وهناك من يختار طقماً من الألماس. وهو أمر نادر.
وفي حديث "المدن" مع مصمم الأزياء ماهر صالح، أكد أن معظم زبائنه قبل الأزمة الاقتصادية كانوا من أصحاب الدخل المتوسط. وكانوا يستطيعون تصميم فستان زفافهم ودفع تكاليفه على دفعات. علماً أن سعره لم يكن يتجاوز 3 ملايين ليرة لبنانية (نحو ألفي دولار حينها). أما اليوم فتغير الوضع كثيراً. إذ بات يتلقى اتصالات يومية من الزبائن للاطلاع على أسعاره، وغالباً ما يعتذرون عن عدم قدرتهم على دفع التكاليف. وهو يقول إنه أجبر على رفع أسعاره وتحويلها إلى الدولار فقط. ويشرح: "بعض الزبائن يتصلون بي ويعرضون علي مبلغ 100 دولار أميركي لإيجار فستان عرس من محلي، أو لتصميم أي فستان زفاف عادي. أما البعض فيطلب استئجار أي فستان أبيض من دون الإهتمام بتفاصيله. وهناك من يقول إن عروسه تكتفي بالتقاط الصور بالفستان". ولا ينكر أن الأزمة الاقتصادية أفقدته زبائنه من أصحاب الدخل المتوسط والمحدود، ليقتصروا على المقتدرين فقط.
وبحسبة بسيطة، فإن الزفاف اللبناني "العادي" للطبقة المتوسطة وما دونها، صارت كلفته تتعدى 100 مليون ليرة لبنانية تساوي حوالى 3500 دولار. أما الأعراس الفاخرة فتصل كلفتها إلى عشرات آلاف الدولارات، وهي محصورة بالطبقة الميسورة المدولرة.
البعض يطلب استئجار أي فستان أبيض بأرخص سعر ممكن (Getty)
تعليقات: