نقص حادّ في العديد والعتاد وفقدان الحافز على أداء الواجب (Getty)
هل بات حصن السّلطة اللبنانية المنيع آيلاً إلى الانهيار؟
يراود هذا السؤال كثيرين منذ مدة، بعدما باتت جليةً شبهةُ انهيار مؤسسة قوى الأمن الداخلي انهيارًا بنيويًا، بسبب الأزمة المعيشية التّي أرخت بأثقالها على عناصر المؤسسة على اختلاف رتبهم، مستنزفةً آخر ما تبقى من مقدرتهم على التحمل. ذلك أن راتب الفرد بات لا يكفي كفاف يوم عائلته، بعدما فقد قيمته بنسبة 95 في المئة، فضلاً عن محاولات الاقتطاع التّي بلغت الامتناع عن صرف المستحقات الاستشفائية والتعليمية للعناصر.
سخرة مقنعّة
وفي ظلّ التسويف والتحامل الذي انتهجته المنظومة السّياسيّة في معالجة هذا الملف الحيويّ والبنيوي، بدل المعالجة الفعلية غير التلفيقية، سُجلت آلاف حالات الفرار من المؤسسة، إضافة إلى مئات العناصر الممتنعين يوميًا عن الالتحاق بمراكزها، ناهيك عن عشرات حالات الانتحار. وهذا عقب ما يقارب 3 سنوات على توقيف التوظيف في الأسلاك العسكرية، وبالتالي توقيف التسريح الذي نص عليه قانون موازنة عام 2019، وحكم العناصر بعمل يشبه السّخرة حتى إشعار آخر.
يشرح مصدر أمني لـ"المدن" حجم الأزمة المالية التّي يعاني منها عناصر قوى الأمن الداخلي، وقيمة رواتبهم الحاليّة التّي فقدت قيمتها تدريجيًا، مشيرًا إلى أزمة القروض التّي قلّما يُسلط الضوء عليها. فمعظم العناصر وبنسبة تتجاوز 80 في المئة، لجأوا سابقًا إلى الحصول على قرض إسكان، فضلاً عن استلاف أغلبهم قروضاً شخصية، ما جعلهم يتقاضون نصف راتبهم الشهري في أحسن الأحوال. وعلى سبيل المثال بات راتب العريف لا يتجاوز 50 دولاراً، فيما كان قبل الأزمة يتراوح ما بين مليون و400 ألف ليرة، ومليون و600 ألف، أي ما يساوي ألف دولار. أما المؤهل الأول الذي كان راتبه يساوي 2100 دولار، فبات اليوم يتراوح ما بين 80 و100 دولار شهريًا، حسب تقلب سعر الدولار في السوق السوداء. أما العقيد الذي كان راتبه يساوي 4 آلاف دولار، فصار اليوم لا يتجاوز عتبة 180 دولارًا.
بؤس وشقاء
"أبيع مخصصات البنزين لأشتري المواد الغذائية، من عدس وأرز وسكر ومعلبات. أما اللّحوم ومشتقات الحليب والفاكهة، فباتت من الكماليات التّي أعجز عن شرائها لعائلتي، فضلاً عن شراء الحاجيات الأخرى كالألبسة التّي قاطعتها منذ 3 سنوات، فراتبي الذي بات يساوي 100 دولار يُقتطع نصفه شهريًا لقرض المديرية، كما للقرض الشخصي الذي كنت أستلفه سنويًا لدفع الأقساط المدرسية، والنصف الآخر أدفعه كاملاً لاشتراك الكهرباء. بل وأضطر أحيانًا للاستدانة لدفعه. ومؤخرًا قمت باستبدال اشتراك الكهرباء بمصابيح (الليد) التّي تعمل على البطارية، بعدما لمست نية اقتطاع المديرية مخصصات المحروقات الشهرية". هذا ما قاله م.ح. (48 سنة، مؤهل أول في قوى الأمن الداخلي) في وصفه لـ"المدن" واقع معاناته الشّهرية، المهانة الاقتصادية التي يعانيها.
وهذا الواقع بات يشمل سواد المنتسبين لمؤسسة قوى الأمن الداخلي، على الرغم من أن م.ح. قد أنهى عقد التطوع الخاص به منذ ما يقارب 6 سنوات. غير أنه بموجب قرار منع التسريح، مجبر على البقاء في وظيفته قسرًا، ومهدد بآخر مصادر الكسب البديل من بيع المخصصات الذي اعتمد عليها منذ بداية الأزمة.
تسرب دراسي بلا تأمين صحي
لا يخفى أن الأزمة الاقتصادية أرخت أعباءها على مختلف الأسلاك العسكرية والقطاعات العامة. غير أن عناصر قوى الأمن الداخلي يعتبرون أنفسهم الأكثر تضررًا. ويعزو الرقيب الأول ع.ج (35 سنة) ذلك للأسباب التالية: "أفراد الجيش مثلاً تقدم لهم المساعدات شهريًا. فضلاً عن وجود مستشفى عسكري لهم ولعائلاتهم. بينما مخصصاتنا للطبابة والاستشفاء باتت شحيحة. وبتنا نتفادى حتّى في أقصى الحالات، الذهاب إلى طوارئ المستشفيات، خوفًا من الموت على أعتباها مسلوبي الإرادة والكرامة. والصيدلية المركزية باتت في خدمة المدنيين لا العسكر في الخدمة الفعلية. إذ يتجه عموم المتقاعدين مع عائلاتهم، وبموجب محاضر دائمة للاستفادة منها، حارمين العناصر الذين لا يستطيعون العمل خارج إطار وظيفتهم من الأدوية"
وما زاد الطين بلّة تفادي مستشفيات وامتناع أخرى عن استقبال عناصر قوى الأمن الداخلي. ومنذ شهور أعلنت نقابة أصحاب المستشفيات في لبنان عن صعوبة استقبالهم، بسبب عدم تسديد المستحقات المتوجبة عن طبابتهم من جهة، وبسبب تدني التعرفات المعتمدة من قبل المديرية من جهة ثانية. وتتعاقب وعود المديرية لأفرادها في الخدمة الفعلية والمتقاعدين، بالطبابة التّي تصل إلى 100 في المئة. لكن الواقع لا يزال مناقضًا لذلك. فالمستشفيات لم تعد تستقبل أي من مرضى قوى الأمن، أكانت حالته حرجة أم لا. وهي تبلغهم بالفواتير الضخمة بـ"الفريش" دولار، التّي يستحيل على عناصر قوى الأمن الداخلي سدادها. وباتت تعرفة أي دواء تساوي راتب العنصر.
عن المساعدات المالية والمنح الدراسية يشرح الرقيب الأول لـ"المدن": "المساعدات المالية الشهرية المستحقة لم تصلنا إلا لمامًا منذ بداية العام. وتتراوح قيمتها بين المليون والمليون ونصف. وهي مقطوعة ولا توزع دائمًا. ودائمًا أدفع أقساط المدارس لأطفالي، ولا تصرف المديرية حتى الآن مستحقات التعليم. ومعظم زملائي أخرجوا أولادهم من المدارس الخاصة، وقاموا بتسجيلهم في المدارس الرسمية أو أوقفوا تعليمهم".
ويلوح في الأفق طيف أزمة جديدة: التسرب الدراسي لأولاد القوى الأمنية والعسكر. وذلك في ظل عدم مقدرة أغلبهم على تحمل أعباء الأقساط التّي اتجهت بغالبيتها إلى الدولرة. ناهيك عن العبء الإضافي المستجد على كاهل المدارس الرسمية. فمنذ بداية الأزمة سُجلت حركة انتقال لافتة لأعداد كبيرة من الطلاب من الخاص إلى الرسمي، من الفئات الاجتماعية كلها.
فرار، انتحار، موت مفاجئ
وبات الفرار من الخدمة الحلّ الوحيد والأخير المتبقي أمام بعض عناصر قوى الأمن الداخلي. وسجلت في السنتين الأخيرتين مئات حالات الفرار الدورية والشهريّة، هربًا من ما بات يُطلق عليه العمل بالسّخرة. وقد تجاوز في العام المنصرم فرار 400 عنصر، رغم تكتم المديرية التام عن هذا الموضوع. فالعنصر اليوم ممنوع من العمل في مكان آخر، رغم فقدان قيمة راتبه. لكن معظم العناصر توجهوا مؤخرًا إلى عمل آخر بدوام جزئي. فطلبات التسريح ترفض، منذ أكثر من 3 سنوات، رغم من انتهاء عقود تطوع كثيرين. أما مأذونيات السفر فترفض دائمًا، بعدما لجأت إليها كثرة العناصر. حتى حصول هؤلاء على هويات وجوازات سفرهم للفرار والبقاء خارج البلاد، باتت متعذرة. فعادة ما تكون أوراق العنصر الثبوتية محجوزة لدى المؤسسة ويتنقل ببطاقة أمنية تعرّف عنه.
هذا الواقع الذي حجز العناصر قسريًا في ما يشبه السجن، رماهم في دوامة من الخوف والعجز إزاء واقعهم وتغييره. لذا كان الانتحار الحلّ الأخير، بدل القيام بانتفاضة مثلًا: فالكثير من العناصر في قوى الأمن الداخلي فضلوا خيار الموت على بقائهم في حلقة احتجاز قسري. ومنذ أشهر شهدت بوابة المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي حالتي انتحار في وضح النهار. كما شهدت مخافر عدة وثكنات موت عناصرها المتعمد في حرمها. وسُجلت عشرات حالات الوفاة بذبحات قلبية أثناء الخدمة الفعلية والدوام الرسمي، بسبب الضغوط المعيشية وأعباء الخدمة. وتفشت الأمراض المزمنة في صفوف العناصر الرازحين تحت أعتى أشكال الفاقة والمهانة الاقتصادية.
أزمة معيشية تجرّ أزمة أمنية
حدد قانون مؤسسة قوى الأمن الداخلي في مضامينه وجوب توظيف ما لا يقل عن 30 ألف عنصر في الملاك. أما اليوم فتعاني هذه المؤسسة -وهي تمول خزينة الدولة بأموال الغرامات والمحاضر وغيرها، على عكس مؤسسة الجيش- من تحولها إلى مؤسسة هرمة. فمع توقف التوظيف والتسريح، باتت بنية المؤسسة معتمدة بشكل أساسي على عناصر قدماء ومن أعمار متقدمة. وانعكست هذا مباشرة على فاعلية العتاد، كالآليات والتجهيزات التّي باتت بمعظمها معطلة.
وفي ظل انشغال العناصر بأزمتهم المعيشية الضارية، فقدوا حافزهم على العمل الجدي، وظهر نقص حادّ في العديد والعتاد. وبات خطر الانفلات الأمني متفاقمًا. فلا دوريات على مدار السّاعة بسبب أزمة المحروقات. والآليات المعطلة باهظة كلفة الصيانة والقطع. والعديد في غرف الطوارئ قليل. ومعدلات الجريمة تتزايد. ولا حلول حمائية واستباقية تُطرح. وبات دور القوى الأمنية دورًا تدخليًا لفض النزاعات أو التحقيق فيها، لا بفرض هيبة السّلطة والأمن والقضاء.
ردّ المديرية
بناءً على ما ورد سابقًا، ردّ مصدر رسمي في المؤسسة بأن كل ما يتداول من شائعات مبالغ فيه، على حدّ قوله، نافيًا كون المؤسسة على شفير الانهيار. وقال المصدر: "بالرغم من كل الأزمات السّياسيّة والاقتصادية والاجتماعية، لا تزال قوى الأمن تقوم بواجباتها على أكمل وجه. بل إن نسبة التوقيفات ازدادت. وواجب هذه المؤسسة حماية أهلها ووطنها وتأمين ظروف عيش كريم لعناصرها. وفي هذا الإطار يحاول اللواء عماد عثمان اجتراح الحلول المناسبة وتأمين أكبر قدر من المساعدات الاجتماعية للعناصر. منها المساعدتان التركية والمصرية التّي وزعت مؤخرًا".
لكن المصدر نفسه لم ينكر الأزمة التّي يعيشها العناصر، بعدما فقدت رواتبهم قيمتها. وكذلك امتناع المستشفيات عن استقبالهم. وهو شدد على القول: "هذه المؤسسة تستحق المساعدة من جميع مكونات الوطن". وتمنى على المستشفيات والمدارس الصبر على العناصر في ظرفهم المعيشي الصعب جدًا. ونفى ما يُشاع عن أن المديرية أصدرت قرارًا بتحويل مستحقات البنزين، التّي تتمثل ببونات ورقية يبيعها بعض العناصر، إلى بطاقات ممغنطة، كما روّج مؤخرًا.
ولدى سؤاله عن حالات الفرار، اعتبر المصدر أنها "متدنية وليست كما يروج لها. والفارون يخضعون لمحاكمات كما يقتضي القانون. غير أنها بغالبها باتت تراعي وتستوعب معاناة العنصر وفاقته المعيشية. وهناك اليوم تساهل وتغاض عن العناصر الذين يعملون بدوامات جزئية. وهذه التساهلات لضمان تماسك هذه المؤسسة الوطنية. فالأزمة تشمل الدولة كلها. وهذه المؤسسة تشكل الضمانة الأخيرة لحماية وإنقاذ الوطن"
ينسحب عناصر قوى الأمن الداخلي اليوم - وفي ظلّ إزدياد وتيرة الإنهيار الإقتصادي التاريخي إنحدارًا ووعورةً -، أكانوا في الخدمة الفعلية أم متعاقدين، بإختلاف رتبهم، إلى حلقة مفرغة من الوعود والأزمات، مضافةً لسجل طويل من من الفساد المستشري في مفاصل المؤسسة العريقة.
تعليقات: