رقص ناديا جمال.. ولاهوت المطران خضر

الجسد قيمته بما يحوله إلى موسيقى
الجسد قيمته بما يحوله إلى موسيقى


عطفاً على مقال "أن تنبذ الجامعة رقص ناديا جمال!"، لفتني وأنا أستعيد جوانب من حياة الراقصة ومسيرتها، ما كتبه أو قاله المطران جورج خضر في افتتاحية جريدة "النهار" قبل أكثر من ثلاثة عقود، وقد فوجئ يومها بعض "مريدي" المطران بمضمون مقاله، بل بالمقال بحد ذاته، وطرح سؤال من نوع كيف يكتب رجل دين ولاهوت عن راقصة شرقية "تقدّم الاغراء" في حركات جسدها؟ ولما كانت إحدى الجامعات "الحداثية" رفضتْ ضمّ مقابلة مع ناديا جمال إلى كتاب، يضم مقابلات اجراها القاص الراحل جورج شامي... فالمطران خضر، الطرابلسي، الارثوذوكسي، العلماني، الحواري، اللاهوتي، الكهنوتي، الناسوتي، المشرقي والروحي، وضع مقاله عن ناديا في كتاب بعنوان "وجوه غابت رؤى في الموت"، يضم محاضرات ومقالات كتبها المطران على مدى ثلاثين سنة، تتناول النظرة اللاهوتية لمعضلة الموت، وعلاقة الموت بالخطيئة ومصير النفس والجسد، والنظرة المسيحية للتقمص وللجحيم وللدينونة. وينشر الكتاب عظات مكتوبة للمطران ألقاها في وداع مجموعة كبيرة من الأسماء "الأيقونية" في الحياة العادية والثقافية والصحافية والسياسية والدينية (الاسلامية والمسيحية) اللبنانية، من عاصي ومنصور الرحباني إلى ناديا جمال، وليد عقل، ناديا تويني، يوسف الخال، الأب يواكيم مبارك، ميخائيل نعيمة، شارل مالك، المفتي حسن خالد، الشيخ صبحي الصالح، البابا يوحنا بولس الثاني، الزعيم ياسر عرفات، الرئيس رفيق الحريري، الصحافي جبران تويني، الكاتب سمير قصير وغيرهم.

وفي الجوهر قدّم المطران في مقاله عن ناديا، المصرية، اللبنانية، الإغريقية، الارثوذوكسية، اسقاطاته الفكرية واللاهوتية، كانت الراقصة ذريعة لكتابة نص عن الجسد والرقص ورأي الكنيسة بهما، ومعنى الرقص وتأويله في اللاهوت المسيحي، وعدا الجانب الطقوسي يركز المطران على المنحى الفنّي وحركة الجسد ورقصة داوود، إذ يمكن للرقص أن يصبح "مجازاً للفكر" بتعبير الفيلسوف الفرنسي آلان باديو، ولم يكن الرقص في أصوله وأنواعه ببعيد عن القداسة وطقوسها في المعابد، خصوصاً في الزمن البدائي... ووردت كلمة رقص كثيرا في الكتاب المقدس والعهد القديم، وكانت تدل على البهجة والفرح وليس على العبادة...

وكتابة المطران عن ناديا جمال فيها شيء من البعد الشخصي والذاتي والديني والروحي، فقبل المقالة، في العام 1989 كانت ناديا تعاني من آلام حادة دون معرفة مصدرها، وكان والدها في كندا مريضاً أيضاً، وحينما ذهبت للطبيب اكتشفت وجود أورام خبيثة في صدرها، حاولت استئصال الأورام لكنه كان انتشر في جسمها. اتصلت بصديقتها راقصة البالية جورجيت جبارة وطلبت منها الاعتناء بالنباتات في منزلها، وأن يقيموا لها صلوات على روحها في كنيسة القديس مار جاورجيوس في الأشرفية، وطلبت أن يترأس القداس المطران خضر وهو ما حدث سنة 1990.

والمطرن في مقاله، ينسبُ إلى ماريا أنها "تأتي من المسيح من بعد ما أتت من نحت اليونان وعمارته"، أي هي المسيحية الارثوذوكسية اليونانية، "قلبها أعظم من فنّها" وذهبت مع إيقاعات الكون إلى "ذاك الايقاع السماوي الذي تتبعه في ملكوت الضياء"، تنسّكت "للفن طلبا للمعرفة الكبيرة"، ورغبت في "الارتفاع من تراتبية الجسد إلى ما يفوقه التماعاً"، والجسد على ما تقول الكنيسة لغة، وجسد المسيح والأنبياء لغة اتصال بالخليقة، والمسيح "يحيا في كل جسد ويتجلّى فيه ويُتمتم فيه لغة الأبد". وناديا جمال بحسب المطران ذاقت هذه اللغة وقالت "إننا في الإيقاع نرسم خطوطاً تكون لنا موعداً مع المجد". "تاقت ربّها بصلاة يومية ونجاوى". والجسد قيمته بما "يحوله إلى موسيقى، إلى ذكرى فردوس مفقود واشتياق الى الفردوس الآتي... يقول نيتشه في هذا الصدد: "لولا الموسيقى، لكانت الحياة غلطة كبيرة"...

لا ضير في القول إن الذين استغربوا مقالة المطران خضر، استغرابهم يأتي انطلاقاً من منطق أن الكنيسة تميل إلى الخشوع، ويشبه استغراب بعض اليساريين أن يكتب (المثقف) ادوارد سعيد عن تحية كاريوكا والرقص الشرقي، والمطران يناقش هذا الأمر، فيلفت إلى أنه ينسب إلى أهل العهد القديم أنهم كانوا يقولون إنّ الرقص تسبحة إذ تمّ في الحضرة الالهية. جاءت الكنيسة وخشي أهل النسك فيها كل جمال يرى نفسه خلاصاً في ذاته... وقالوا في الرقص كلاماً قاسياً بسبب "ما يفوح عن اللحم من نتانة". وبعض رجال الكنيسة قالوا إن الجسد لعنة، بل هو الخطيئة التي اعتبروها تُطارد الإنسان وتدفع به إلى جحيم ميتافيزيقي.. المطران خضر الواعظ يسأل "هل الرقص كان بالضرورة انثناءً في الشهوة أم له أن يذهب إلى ما يتعداه؟ هل للجسد أن يصبح حواراً؟" ويضيف "كل حوار يقتضي الاحجام وذهابا إلى الآخر بأن الجسد إمكان ملتقى وإمكان دروس، ولكنه كثيراً ما طوّع للشهوة المستقلة ووصف في عالم الاشياء. وبدل أن يصير إلينا كلمة تمجيد وقفنا عنده وحشرنا انفسنا في حدوده فادغمناه بالرؤى. لعل قصد التي نقيم ذكرها اليوم كان أن تتخطاه والنية كانت معقودة على ذلك". يؤول المطران خضر بعض الكلام الانجيلي والكنسي على غير وجهة ما يؤوله بعضهم، فـ"الفن مثل كل ما يبدعه البشري قائم تحت راية الالتباس"، وعبارة "سبحوه بالدف والرقص" الواردة في سفر المزامير في ظنّ المطران أن النبي لا يتكلم حصرا عن تسبحة طقوسية، ولكنه يتحدث عن المنحى الفني، وكأنه يوحي بأن الفنان الكبير بملازمته الحقيقة انما ابدا "في حالة التسبيح". وذروة الرقصة كائنا ما كان "أن يجري في حضرة الله".


تعليقات: