أسمهان في دمشق
الأعوام الثمانية والسبعون التي مضت على رحيل أسمهان في 14 تموز/يوليو 1944 لم تُزِل شيئاً من الغموض الذي أحاط بحياتها، رغم مئات الصفحات التي كتبت عنها طوال العقود الماضية. فالذين كتبوا عنها كانوا ينطلقون من موقف عاطفي مع أو ضد هذه الفنانة الكبيرة، فتلونت سطورهم بألوان الشفقة أو الإدانة أو حتى السخرية والتشفي، لكنني أستطيع القول وبعد قراءة غالبية ما كُتب عن أسمهان، أن كل الذين تصدوا للكتابة عنها -متعاطفين أو منتقدين- قد تعاملوا معها كما لو كانوا ينقلون إلينا فيلماً سينمائياً مثيراً يبذلون أقصي ما لديهم من حبكة وخيال ليجعلونا نتشبث بمقاعدنا حتى كلمة النهاية. فقد انجذبوا إلى هذا الغموض المثير الذي أحاط بحياتها ومماتها أيضاً، وأغرتهم الأحداث المليودرامية التى مرت بها أسمهان في الوقوع في كثير من المبالغات والمغالطات بحيث يندر أن تجد، بين كل ما كتب عنها، معلومة متفقاً عليها أو تاريخاً يحظى بالإجماع، وربما كان هذا هو أحد أهم أسباب الغموض الذي ظل يلازم سيرة أسمهان حتى يومنا هذا.
وكان لكل هؤلاء عذرهم، فنحن لسنا فقط أمام مطرية خارقة حباها الله بصوت جمع بين القوة والمرونة والتفرد والمساحة العريضة وحسن التدريب، ولسنا فقط أمام امرأة أغرتها لعبة السياسة في زمن حين كان العالم كله في حالة عداء، فساهمت بصورة غير مباشرة في تغيير خريطة منطقة الشرق الأوسط عقب الحرب العالمية الثانية، ولسنا فقط أمام سيدة حاولت في آن واحد أن تتعامل مع رجال المخابرات الانكليزية والفرنسية والألمانية والوكالة اليهودية في فلسطين، وظنت أنها قادرة علي خداع كل هؤلاء فدفعت ثمن ذلك غالياً. ولسنا فقط أمام امرأة عرفت كل رجال السياسة في مصر وكان بإمكانها -لو أرادت- أن تحكم البلاد من خلال الرجلين اللذين وقعا في غرامها: أحمد حسنين رئيس الديوان الملكي، ومراد محسن مدير الخاصة الملكية، ولسنا فقط أمام سيدة تزوجت ثلاث مرات وأوقعت عشرات الرجال -مصريين وعرباً وأجانب- في حبها، ولسنا فقط أمام امرأة أفرطت في كل شيء إلا عواطفها، فأسرفت في الشراب والتدخين وبالغت في حياة البذخ والترف، وليالي الأنس التي غنت لها، وتشعبت في علاقاتها إلى الحد الذي أضر صاحبتها، ولسنا فقط أمام إنسانة حاولت الانتحار مرتين وتعرضت للاغتيال مرتين ثم ماتت غرقاً في حادث ما زالت ملابساته غامضة إلى اليوم.
إننا أمام كل هؤلاء في شخص امرأة واحدة هي أسمهان، والشيء الذي يثير الدهشة والعجب أنها استطاعت التنقل مرات بين القاهرة وبيروت ودمشق والقدس وعمّان والسويداء في جبل الدروز وأنقرة ولندن.. لتفعل ما فعلته في أقل من سبع سنوات، وقبل أن تكمل الثلاثين من عمرها في أقصي تقدير(مواليد 25 تشرين الثاني/نوفمبر1917 على ظهر سفينة بالقرب من ميناء أزمير فى تركيا). لم تكن امرأة عادية وإنما كانت بطلة أسطورية يصح أن تكون مادة لأكثر الروايات أو الأفلام السينمائية نجاحاً على مر العصور. ومشكلة أسمهان الحقيقية، أنها لم تكن تحب الفن أو بعبارة أدق لم تكن تحب احتراف الفن والعمل به، ويروي صديقها الصحافي محمد التابعي أنها كانت تكره الغناء في الحفلات العامة، ولا تحب الغناء أمام النساء في الحفلات الخاصة، وأنها كانت من أجل لقمة العيش تذهب للغناء في أفراح الطبقة الراقية أو حفلات الأقاليم، ويفسر ذلك بأنها كانت تشعر أنها خُلقت كي تكون أميرة، لا مطربة. على أية حال، فإن إنتاج أسمهان القليل، غناء وتمثيلاً، يؤكد أنها كانت شحيحة الاهتمام بفنها رغم امتلاكها كل أدوات تميزها، أو أن طموحها جعلها لا تقنع بمجرد تصدر اسمها الصفحات الفنية في الصحف والمجلات، فراحت تبحث عن دور أكبر بين كواليس السياسة ومسرح الحياة الاجتماعية، على حساب اهتماماتها الفنية وإخلاصها لما خلقت له بالفعل. نعم، فقد كان كل ما لدى أسمهان يؤكد أنها خلقت كي تكون فنانة، لا أي شيء آخر. فقد جمعت - كما قلنا- بين قوة الصوت ولياقته وتفرده وحسن تدريبه على يد شقيقها فريد الأطرش، ثم داود حسني من ناحية، وراهبات مدرسة الفرير من ناحية أخرى، لذلك نجحت مع كل عباقرة الموسيقى في زمانها، سواء كانوا تقليديين كداود حسني ورياض السنباطي، أو مجددين كالقصبجي ومدحت عاصم وفريد الأطرش. وفي السينما لم تقدم أسمهان سوى فيلمين: "انتصار الشباب"(1941)، و"غرام وانتقام" الذي توفيت قبل أن تكمل تصويره العام 1944. الفيلم الأول أمام فريد الأطرش وبشارة واكيم وإخراج أحمد بدرخان. والثاني بطولة وإخراج يوسف وهبي، وأمام أنور وجدي ومحمود المليجي، وتقاضت عنه أجراً قدره 17 ألف جنيه، وهو أعلي أجر تقاضته نجمة في حينه، ولم تقدم أسمهان في الفيلمين أي قدرات تمثيلية خارقة لكنها كانت فرصة لتقديم مجموعة من الأغنيات شكلت أهم وأشهر ما تركته أسمهان من غناء.
ولأن عملها بالفن لم يكن اهتمامها الأول، فقد استهوتها لعبة السياسة، لكنها لم تكن تعلم -على ما يبدو- أن اللعب مع الكبار له أصوله وقواعده، وأن من لا يعرف هذه الأصول ويتخطى الخطوط المسموح بها عليه أن يدفع ثمن جهله. فهل جهلت أسمهان أصول اللعبة؟ أم أنها رغبت في أن تكون أكبر مما أرادوا لها؟ على أية حال، فإن النتيجة واحدة وقاسية وفادحة، إنها حياة أسمهان ذات الـ27 ربيعاً أو نحو ذلك. المصادر كلها تشير إلى أن مهمة أسمهان الأساسية التي كلفتها بها المخابرات البريطانية في أيار/مايو1941، من طريق صديقتها أمينة البارودي التى كانت تلقّب بـ"الأرنبة السوداء"، تمثلت في تحويل ولاء الدروز لحكومة فيشي الفرنسية العميلة لألمانيا، إلى الولاء لقوات الحلفاء وضمان عبور قوات فرنسا الحرة بقيادة شارل ديغول في الجبل من دون مقاومة من آل الأطرش زعماء الدروز. ويبدو أن حساسية وسرية هذه العملية، هما السبب وراء تضارب الأسماء الحقيقية لرجال مخابرات الحلفاء والمحور الذين تعاملوا مع أسمهان، حسبما جاء في كتابات كل الذين تعرضوا لهذا الموضوع، قبل أن تفصح المخابرات البريطانية عن الشخصيات الحقيقية في هذه العملية إثر وفاة الليفتنانت جون ايفتس العام 1988، قائد الفرقة البريطانية السادسة في الشرق الأوسط آنذاك، والموكل إليه تحريك أسمهان، والذي كان أيضاً أحد ضحايا عينيها الخضراوين على حد قول نيكولاس فاث الذي نقل عن وثائق المخابرات البريطانية قصة أسمهان.
ورغم نجاحها في مهمتها بفضل الأموال التي أغدقها الانكليز على زعماء الدروز، فإنها لم تقنع فقط بهذا الدور، وراحت تستخدم كل أسلحتها من أجل كسب ود ومال ونفوذ كل أصحاب المصالح في المنطقة، من انكليز وفرنسيين ويهود، حتى أنها حينما استشعرت شح الانكليز ونيتهم الاستغناء عن خدماتها، لم تمانع في التعامل مع "فون باين" سفير هتلر في تركيا، ثم عادت وضحت بصديقها الصحافي الأميركي "فورد" عميل الألمان في الشام وسلمته إلى الانكليز على الحدود السورية التركية، بعدما تأكدت من علم المخابرات البريطانية بنيّتها السفر إلى أنقرة. ويقول الصحافي والمخرج السينمائي، ناصر حسين، في أوراقه التي كتبها عن أسمهان، أن المخابرات الألمانية أصدرت في ذلك اليوم حكمها بإعدام أسمهان انتقاماً لعميلها الذي راح ضحية هذه المرأة. وفي بيروت، تعرضت أسمهان لمحاولة اغتيال، لكن الرصاص ضل طريقه للهدف، وعلى طريق القدس كادت سيارتها تنقلب بسبب عيب في الفرامل، وفي المرتين قُيّد الحادث ضد مجهول، إذ لم تشأ السلطات السير في التحقيق لأنها تعرف من هم أصحاب المصلحة في التخلص من أسمهان. أما عن محاولاتها هي التخلص من نفسها، فيتحدث الصحافي محمد التابعي في كتابه عن أسمهان، عن محاولة انتحار قامت بها في 21 أيلول/سبتمبر 1941، أثناء إقامتها في شقة بمنطقة الزمالك، وأنقذها هو وخادمتها، وسجل الواقعة في ملفات الإسعاف باسم "آمال حسين". ويتحدث شقيقها فريد الأطرش في مذكراته التي حررها الصحافي فوميل لبيب، تحت عنوان "لحن الخلود"، عن محاولة أخرى قامت بها في فندق مينا هاوس المطل على أهرامات الجيزة، وأنقذتها صديقتها ماري قلادة ابتي ستنقذها مرة أخرى من رصاص زوجها أحمد سالم قبل أن تلقى مصرعها معها في تموز/يوليو 1944.
كانت حياة أسمهان تسير إلى قدرها المحتوم، لكن يبدو أنها كانت تنتظر هذا القدر بإحساس دفين بدنوه. يروي فريد الأطرش أنّ صديقاً له أتى بأحد المنجمين إلى منزلهم قبل سفر أسمهان إلى الشام مع زوجها الأول، ابن عمها الأمير حسن الأطرش العام 1939، وبدأ يقرأ لها طالعها وسط ذهول الحاضرين حيث قال لها: سترتفعين إلى القمة وتحكمين الناس وتنجبين ثلاثة تعيش منهم واحدة، وستموتين في الماء وأنت في ريعان الشباب.
وتلاحقت الأحداث بشكل محموم في الأشهر الأخيرة من حياة أسمهان، فقد كانت تقيم في القدس بعد رفض السلطات المصرية السماح لها بالإقامة في القاهرة، ووجدت في الزواج من الممثل والمخرج أحمد سالم فرصة ذهبية تضمن لها دخول مصر، وبالفعل تزوجت أسمهان للمرة الثالثة بعد الأمير حسن والمخرج أحمد بدر خان، وعاد الزوجان من القدس لتبدأ أسمهان تصوير فيلم "غرام وانتقام"، لكن علاقتها بأحمد حسنين رئيس الديوان الملكي كانت حديث الناس في ذلك الوقت، حتى أن أحمد سالم طلب ذات مرة من أحمد حسنين، على حد قول التابعي، أن يبتعد عن زوجته، وأنه حينما فشل في ذلك حاول الانتحار وتم إنقاذه. ثم تصاعدت الأمور بين الزوجين، إلى أن صوّب أحمد سالم مسدسه إلى وجهها في الثالثة من صباح أحد أيام تموز/يوليو 1944. ويقول محمد التابعي إن أحمد سالم كان قد تأكد من كذب زوجته وهي تبرر له سبب التأخير، وأنّ الشك ساوره في أن تكون عائدة من بيت أحمد حسنين. ويضيف أن أسمهان استطاعت الهرب من وجه زوجها، ولجأت إلى مسكن مجاور حيث أبلغت الشرطة، فجاء الضابط الذي اشتبك مع أحمد سالم، فأصيب الاثنان برصاصات طائشة. غير أن فريد الأطرش يحكي الواقعة بشكل آخر، فيقول إن أحمد سالم كان يحاول منع أسمهان من الخروج من البيت بصحبة صديقتها مارى قلادة، فاحتدم النقاش بينهما وهددها بضربها بالرصاص إذا حاولت الخروج، وأن ماري قلادة هي التي استطاعت الهرب وإبلاغ الشرطة وأن الضابط الذي حضر كان صديقاً لأحمد سالم، ولذلك سمح له بالدخول. ويؤكد فريد الأطرش أن الضابط هجم على أحمد سالم ظناً منه أنه على وشك إطلاق الرصاص على أسمهان المختبئة تحت الملاءة.
المهم أن أسمهان قد نجت من الموت هذه المرة أيضاً، وبقيت بجوار أحمد سالم أياماً في المستشفى إلى جانب استمرار تصوير مشاهدها في فيلم "غرام وانتقام"، وفي صباح 14 تموز/يوليو 1944، قررت أسمهان أن تأخذ إجازة قصيرة من التصوير، وتذهب إلى مصيف رأس البر على ساحل البحر المتوسط مع صديقتها ماري قلادة التي كانت قد أنقذت حياتها مرتين من قبل. وبالقرب من أحد المصارف المائية عند مدينة المنصورة شمالي دلتا النيل، نظر سائق سيارة أسمهان يميناً ويساراً -حسب رواية نيكولاس فاث- وتأكد من أن البابين الخلفيين محكمان، ثم فتح بابه الأمامي وألقي بنفسه على الحشائش تاركاً السيارة تستقر بمن فيها في قاع المصرف. وقيل الكثير عن هذا الحادث، وظل السؤال الكبير قائماً إلى اليوم: مَن قتل أسمهان هل هي الملكة الأم نازلي التي كانت ترى في أسمهان المنافسة الوحيدة علي قلب أحمد حسنين؟ هل هي المخابرات الألمانية التي لم تنس ثأرها بعدما سلّمت أسمهان عميلها في الشام إلى المخابرات البريطانية؟ هل هم الإنكليز أم الفرنسيون الذين كانوا يتعاملون مع أسمهان على أنها ورقة يجب التخلص منها؟ الشيء المؤكد أن لكل هؤلاء مصالحهم في اختفاء أسمهان، والشيء الأكثر تأكيداً أن أسمهان قد ماتت بصرف النظر عن كينونة الجهة التي وقفت وراء اغتيالها، لقد ماتت أسمهان في الماء مثلما ولدت فيه، وظلت إلى الأبد لغزاً غامضاً لم تستطع الأعوام أن تفكّ طلاسمه، وشخصية مثيرة قفزت من قلب الأساطير لتعيش في عالمنا سنوات مشحونة بالاضطراب والقلق ثمّ عادت إلى الأساطير من جديد.
أسمهان
(غرام وانتقام)
(انتصار الشباب)
أسمهان مع أحد جنرالات الحرب العالمية الثانية
تعليقات: