لا أخبار في "الوكالة الوطنية للإعلام" الرسمية اللبنانية اليوم، بعدما أصبح إضراب موظفيها هو الخبر. فقد تمرد موظفو الوكالة، من محررين ومندوبين وتقنيين، على نتائج الجمعية العمومية لموظفي وزارة الإعلام، التي عقدت بحضور الوزير زياد مكاري ومشاركة مدير الوكالة بالتكليف زياد حرفوش، وخلصت الى اعتبار إضراب اليوم تحذيرياً.. فقرروا "الاستمرار في الإضراب المفتوح الذي سبق واتفقنا على تنفيذه بدءاً من صباح اليوم، في استجابة، ولو متأخرة، لدعوة رابطة موظفي الإدارة العامة". وربطوا فكّ الإضراب "بقرار الرابطة"، على أمل أن "يستعيد الموظف كرامته في دولة الحرية والكرامة".
والحال إن قيمة رواتب الموظفين تدهورت إلى حد أنها لم تعد تكفيهم حتى للوصول إلى مكاتب الوكالة. هي معاناة الموظفين جميعاً في القطاع العام.. وقد حاول البعض التخفيف من زخم الخطوة، بالتشكيك في مرادها، وبالادعاء بأن هناك "فائض موظفين في الوزارة"، لكن الأمر لا يعدو كونه انتقاصاً من مطالب مُحقة.
وجزمت المديرة السابقة للوكالة، لور سليمان، في تصريح لـ"المدن" أنّ "العكس هو الصحيح، فالوكالة تعاني نقصاً في موظفيها، يترافق مع تزايد عدد المتقاعدين في وقت لا توظيف بديلاً".
توظيف سياسي... فنقص
لفتح هذا الملف من تاريخ الوكالة، يلزم التوقف عند ثلاث محطات أساسية لها في العقدين الأخيرين. لا يمكن التغافل عن قرار "تنظيم الموظفين" في الوزارة، الذي أعدّه وزير الإعلام غازي العريضي وأقره البرلمان العام 2003، وكان العامل الفصل في هذا المسار، إذ نصّ على إخراج فائض الموظفين من سجلات الوزارة وتوزيعهم على الوزارات الأخرى (حوالى 50 موظفاً)، فيما وقّع آخرون عقود تعاقد مع وزارة الإعلام وفق نظام المباراة المفتوحة في مجلس الخدمة المدنية.
في العام 2010، برز تطور جديد، حين تعاونت الوكالة الوطنية للإعلام مع قرابة 25 شخصاً انحصرت مهمتهم في القسم الأجنبي فيها، وتم توظيفهم تحت بند "شراء خدمات" وفق المادة 7 من قانون تنظيم الإعلام، وذلك بعد إقفال باب التعاقد والتوظيف فيها.
في العام 2014، حاول الوزير رمزي جريج، فتح باب التعاون مع عدد آخر من الأشخاص تحت البند نفسه. وترد لور سليمان (مديرة الوكالة من العام 2008 حتى العام 2019) على الادعاءات بفائض موظفين في الوكالة، معتبرة أن "حقبة الوزير العريضي عالجت الفائض الحاصل وقتها، فيما لا صحة للحديث عن فائض حالي، بل على العكس هناك نقص في عدد موظفي الوكالة، خصوصاً بعدما قمتُ خلال فترة عملي كمديرة للوكالة، باستحداث أقسام اللغات والسوشال ميديا فيها".
وتعزو سليمان نقص الموظفين كذلك إلى أسباب أخرى، أبرزها أنّ "عدداً كبيراً من الموظفين أحيلوا إلى التقاعد عاماً بعد عام". أما عن ملف التوظيف في عهد الوزير رياشي، فتردّ من جهتها مؤكدة أن "الوزير رياشي لم يعين أي موظف جديد، بل أنه، على العكس، ألغى عقوداً لأنه لم تكن هناك أموال كافية في الوزارة لتغطية تلك العقود".
470 موظفاً يديرون وزارة الإعلام
وتتقاطع معلومات مدير الدراسات والمنشورات في وزارة الإعلام، خضر ماجد، في حديثه لـ"المدن"، مع سليمان، لناحية نقص عديد الوكالة الوطنية للإعلام، شاملاً "الوزارة برمتها بهذا النقص".
ويشير ماجد إلى أن وزارة الإعلام، بما فيها مكتب الوزير ومعاونوه والمدير العام وأمانة السر والديوان (يضم المحاسبة ودوائر قانونية وغيرها) والإذاعة وقسم الدراسات والمندوبون... هم حوالى 470 موظفاً، يديرون الوزارة بكل أقسامها، معلقاً: "أين الفائض إذاً؟".
ويعطي مثالاً عن النقص الكبير في الأقسام. فمديرية الدراسات، من ضمن مهامها استطلاعات الرأي وإعداد الدراسات والموقع الرسمي لوزارة الإعلام بلغات ثلاث، بالإضافة إلى المغتربين والإعلام الخارجي. ويسأل ماجد: "تخيلوا أن كل هذه المهام، يغطيها 17 موظفاً فقط لا غير، بينهم حاجبان، وموظفون إداريون".
وفي الإذاعة ليس الوضع أفضل حالاً، "فعدد موظفيها الحاليين أقل من العدد الملحوظ في قانون تنظيمها". أما "الوكالة الوطنية للإعلام، وهي مصدر للأخبار الخارجية والوطنية في لبنان والخارج، فتصاعد عدد المحالين فيها إلى التقاعد، وأخليت مكاتب مراسلين، ما جعل بعض المناطق لا تجد لها سوى مراسل واحد، ما يشكل عليه عبئاً كبيراً في تغطية الأخبار، ومع هذا، حافظ هؤلاء الموظفون على مستوى جودة التغطية".
ويقرأ ماجد، قرار العريضي الترشيدي للوزارة العام 2003 بشكل إيجابي، فهو برأيه "نظّم الوزارة، إذ أخذت حاجتها من الموظفين يومها". لكن المشكلة هي أنه منذ ذلك الوقت "لم يتم توظيف موظفين جدد، ما يترافق مع ارتفاع عدد المتقاعدين، ويخلق نقصاً حاداً في عديد موظفي الوزارة".
أيام الحرب لم نتوقف عن العمل
وعن الإضراب التحذيري للعاملين في الوزارة، يقول: "نحن موظفون في الدولة ونخدم المصلحة العامة، ففي أيام الاجتياح الاسرائيلي لم تتوقف الوكالة عن العمل، وفي حرب تموز 2006 كانت مديرية الدراسات تعمل على إحصاء الخسائر والأضرار، وكانت الوكالة الوطنية للإعلام تتابع الخبر اللحظوي، لتشكل مرجعاً أساسياً للخبر سواء لوسائل الإعلام المحلية أو العالمية".
لكنّ وضع الموظفين اليوم لناحية تدني رواتبهم، هو بمثابة حرب تمارس عليهم. يقول ماجد: "راتبنا لم يعد يكفينا، لكننا لا نأكل من صحن مؤسسات الدولة لنبصق فيه، والبلد كله يمر في أزمة، وعلينا التعاون لنصل إلى الخواتيم الإيجابية بالتي هي أحسن".
ظروف عمل فائقة الصعوبة
"نريد لصرختنا أن تصل، فسكوتنا لوقت طويل راكم المعاناة لدرجة ما عادت تحتمل". بهذه الكلمات ترفع الموظفة في الوكالة الوطنية في قسم المندوبين، أميمة شمس الدين، الصوت عالياً، وتضيف: "ظروف عملنا أقسى حتى من ظروف موظفين آخرين في القطاع العام".
وعبارة "ظروف عمل سيئة"، عاجزة عن الوصف برأيها، "فالموضوع تجاوز قضية الراتب الذي لا يتجاوز الـ3 ملايين ليرة، ليتخطاه إلى بيئة العمل نفسها. إذ أننا نعمل في مكاتب الوكالة حيث لا مياه ولا كهرباء، ولا مكيفات في عز موسم الحر".
وعن صبرهم طيلة الفترة الماضية تقول: "تحملنا لأنّنا لا نريد إقفال الوكالة. كل وسائل الإعلام تعتمد علينا كمرجعية لنقل الخبر، لكنّ الأمور وصلت إلى مرحلة بتنا فيها حتى غير قادرين حتى على الوصول الى مكاتبنا".
"بيتي في الجبل"، تقول شمس الدين، "وتصل كلفة بدل النقل اليومي الى المكتب، إلى 300 ألف ليرة يومياً، ونحن لم نأخذ بدلات نقل منذ أشهر، والمساعدة الشهرية حصلنا عليها لمدة 3 أشهر فقط. وراتبي في حدود مليونين ونصف المليون ليرة، وبالكاد يكفيني مدة يومين اثنين، فهل هذه ظروف مؤاتية للاستمرار في العمل؟"..
والوكالة لم تقفل يوماً، حتى أيام الإغلاق بسبب فيروس "كورونا"، تقول شمس الدين، "وذلك من باب حرصنا على دقة العمل، لكنّ الأعباء علينا تتزايد يوماً بعد يوم، ومن بينها كذلك نقص الموظفين، فعدد مندوبي بيروت مثلاً أقل من الحاجة، ونحن لا نطلب سوى حقوقنا بهدف تمكننا من مزاولة عملنا ونقل الخبر".
تضامن نقابي
وأعلن تجمع نقابة الصحافة البديلة دعم موظفي الوكالة في معركتهم نحو حقوقهم الأساسية، في حين دعا نقيب محرري الصحافة اللبنانية جوزف القصيفي "المسؤولين المعنيين إلى تحقيق مطالب موظفي الوكالة بسرعة وتوفير شروط العمل الكريم في مكاتبهم، ودفع بدلات النقل المستحقة لهم في مواقيتها من دون تأخير".
ومع أنّ نقص عديد موظفي الوكالة الوطنية، لا يلغي حقيقة تضخم القطاع العام والتوظيف السياسي فيه، لكنه معضلة تضاف إلى معاناة الموظفين المنوطة بهم تغطية النقص حيث وُجد، ما يعيد موضوع ترشيد القطاع العام إلى الواجهة قبل الحديث عن أي إصلاح في الرواتب يزيد من أعباء التضخم، مبقياً على الموظف "المدعوم" لقوة "واسطته"، ومبقياً كذلك على "مظلومية" الموظف الذي لا "واسطة" له!
تعليقات: