العلاقة بين الفنون التشكيليّة وعطاءات الإنسان الفكريّة والعلميّة الأخرى قديمة في التاريخ البشريّ؛ فإذا أردنا أمثلة سيقفز إلى ذهننا بشكل رئيس كتابات ورسوم الفنان الإيطاليّ ليوناردو دافنشي المتعلّقة بالطبّ والعلم والفيزياء (الطيران). ودون الحاجة إلى جردة تاريخيّة مطوّلة ننتقل إلى الفنّ الحديث حيث أعلن الفنان السورياليّ سلفادور دالي أنّ لفنّه القدرة على الإحاطة بأسرار الكون واستباق الاكتشافات العلميّة (إدّعى دالي أنّ لوحاته تنبّأت باكتشاف الذرّة والشيفرة الوراثيّة). ويقول الفنان الفرنسيّ إدغار ديغا أنّ الفنان لا يرسم ما يراه، ولكن ما ينبغي أن يجعل الغير يراه. يؤكّد هذا القول على اهتمام الفنانين التشكيليّين بالغوص في غياهب المجهول واللامكتشف. يُعزّز هذا الشيء قول الفنان السويسريّ بول كلي أنّ الفنّ ليس محاكاة للطبيعة، فيما نخلقه كفنانين، بل أن نكون خلاقين مثلها. والأمثلة كثيرة حول أقوال الفنانين في هذا الإطار..
كان الفنّ في أحيان كثيرة سبّاقاً على العلم في بعض الاكتشافات، أو لنقل الممهّد لها، كما هي الحال مع المدرسة التنقيطيّة التي كانت وراء ظهور الشاشة الملوّنة التي تتألّف من نقاط متلاصقة صغيرة الحجم، ومبدأ الكومبيوتر المأخوذ من نظريّة فاسيلي كاننسكي الروسيّ، حول حركة النقطة على المسطّح، وما يُنتج عن هذه الحركة من أشكال وأبعاد ومسطّحات..
ساهمت كتابات كاندنسكي، أو أدّت، من ضمن ما أدّت إليه، إلى استعمال اللون في العلاج النفسيّ، ما يُسمّى بالـ «Thérapie»، وهو علم يتناول تحليل اللون وانعكاساته على اللاوعي وما ينتج عنه من تأثيرات وتداعيات، دون أن ننسى ما أسّسته كتاباته كقواعد نظريّة لما يُسمّى بفن الـ «غرافيسم» و«اللوغو» المعاصر، وفن الدعاية بشكل عام، تشهد على ذلك أعماله اللونيّة، ولا سيّما الأشكال الدائريّة الملوّنة والمنوّعة.. (من كتاباته: نقطة، خطّ، مسطّح والروحانيّة في الفنّ..).
والفنان الآخر الروسيّ، كازيمير ماليفيتش، بدوره، تنبّأ بالأقمار الصناعيّة، أو الاصطناعيّة، (الساتلايت) وبالـ (الانترنت) بحديثه عن المُتحف الثقافيّ التصويريّ في كتابه «من التكعبيّة إلى التفوّقيّة» بقوله: «سنبني في وسط الهاويات الطنّانة بين جبلين، على أجنحة الزمن، وعلى المرتفعات وفي عمق المحيطات أشكالًا مرنة (...) أتخيّل أنّ المتحف يجب أن يُشاد، ليس على الثقافة التصويريّة، بل بشكل عام على أشكال يمكنها أن توقظ الأرواح الميتة لمصلحة ديناميكيّة الحياة والخلق.. أتخيّل المتحف كفضاء حيث الإنسان سيشترك بمجموع هائل، حيث يمكن لكلّ واحد أن يلاحظ التحوّل، النموّ والتطوّر لمنظومة بكاملها وليس لأجزاء معزولة منها، موضوعة على خلفيّات مفصولة عن بعضها. يجب تكوين صورة الإنسان في الطور الواحد المعاصر لتحوّه الأخير..». ذكرتُ هذه الأشياء في مؤلّفيّ رؤى تشكيليّة حديثة ومعاصرة، ومحطّات تشكيليّة، منشورات الجامعة اللبنانيّة.
نسوق هذا الكلام للإشارة إلى الحدث الذي حصل البارحة حول اكتشاف وكالة الناسا الأميركيّة لبعض الحقائق عن الكون من خلال صور بثّتها عبر الأقمار الصناعيّة للمجرّة الكونيّة، التقطها التلسكوب «جيمس ويب» في لقطات تكرّس بداية حقبة جديدة في علم الفلك انتظرها العلماء سنوات طويلة، كما قِيل. لقطات مُذهلة تُظهر المجرّات التي تشكّلت بعد فترة وجيزة من الانفجار العظيم قبل أكثر من ثلاثة عشر مليار سنة. هذه الصور أتت مطابقة لأعمالي لمرحلة باريس (أنظر الصور المرافقة للنصّ) نهاية الثمانينيّات حيث الفضاء الكونيّ كان ملاذي الفنّيّ التشكيليّ حينها. استوحيتُ أعمالي من رحم الحرب الأهليّة المدمّرة وانفجار الصراع الذي شبّهته بالانفجار الكونيّ دون أيّ قصد علميّ منّي، بل هدفي كان الهروب من وضع نفسيّ وذهنيّ وخياليّ عانينا منه آنذاك، ولمّا نزل. كنتُ أحاول عبر هذه الأعمال اللجوء للفضاء الفسيح، وتلمّس الضوء الكونيّ، والسباحة في متاهة الفراغ واللامعلوم، فكان هذا الاستشراف بأعمالي.. فتحت لي باريس أفقاً كنتُ أحتاجه في مدينة الفنّ والجمال والكون.. وقد أسميثُ معرضي الأوّل حينها «تحيّة لباريس»..
أقولها بكلّ تواضع واعتزاز، وبصيغة الواثق، أنّ أعمالي سبقت وكالة الناسا باكتشاف الكون عبر هذه الصور. وقد كان لي شرف عرض هذه الأعمال في قصر الأونيسكو عام 2005 تحت عنوان «مرحلة باريس»، هذه الأعمال التي لم تلقَ حينها الصدى التي تستحقّه (سوى ما ندر) ولا الاهتمام الكافي من الصحافة والنقّاد والغاليريهات والمهتمّين بالفنون التشكيليّة في هذا الوطن المريض بكلّ مستوياته. مع الإشارة إلى أنّ أحد هذه الأعمال شاركتُ بها في مباراة «نجوم التصوير» في فرنسا، أقامته إحدى الوزارات الفرنسيّة، وقد اختير عملي، مع أربعة أعمال أخرى لفنانين فرنسيّين، كأفضل أعمال عن باريس، حصلت بموجبها على منحة دراسيّة تساوي اثني عشر ألف فرنك فرنسيّ، وقد تفضّلت صحيفة الـ «موند» الفرنسيّة بكتابة مقال عنّي حينها.. ما نودّ قوله أنّ الفنّ في فرنسا لا يخضع لمحسوبيّات طائفيّة ومناطقيّة وعلاقات كما يحصل في وطننا المريض، شفاه الله من هذه الآفات. علّ من يسمع.. للأسف الشديد أنّ جزءاً كبيراً من هذه الأعمال قد تعرّض للتدمير أثناء حرب تموز 2006 وخسارتي لأعمالي حينها..
* يوسف غزاوي
تعليقات: