اندلاع حرائق ضخمة امتدت من أوروبا إلى شمال أفريقيا (Getty)
يشهد كوكبنا اليوم التداعيات الكارثية لتغير المناخ، فإن كنت تتابع الأخبار اليومية ستُصدم حتماً بعدد القتلى والمصابين والمشردين جرّاء الجحيم المناخي الذي يتسبب بحرائق الغابات والفيضانات وموجات الحرّ والجفاف غير المسبوقة حول العالم. والمُحزن أن هذا غيضٌ من فيض مما ينتظرنا، وخير دليلٍ على ذلك التصريح الأخير للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الذي حذّر فيه من أن تركيزات الغازات الدفيئة وارتفاع مستوى سطح البحار وحرارة المحيطات سجلت أرقاماً قياسية جديدة، ستضع نصف البشرية في منطقة الخطر.
الجحيم المناخي
تواصل موجات الحرّ الشديد اجتياح مناطق عديدة من العالم، مع تسجيل درجات حرارة قياسية في أوروبا والولايات المتحدة، واندلاع حرائق ضخمة امتدت إلى شمال أفريقيا. ففي الوقت الذي اجتاحت فيه حرائق غابات ضخمة غرب أوروبا، ودمرت مساحات شاسعة من الأراضي وأجبرت الآلاف على النزوح من منازلهم، أعلنت الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي الأميركية، أن شهر حزيران المنصرم كان من بين الأكثر حرارة في تاريخ الولايات المتحدة منذ 128 عاماً، فيما توقعت هيئة الأرصاد الجوية الأميركية تسجيل أكثر من 60 رقماً قياسياً جديداً بدرجات الحرارة في 20 ولاية بحلول نهاية الأسبوع الجاري.
وقد ذكر مكتب الأرصاد الجوية البريطاني يوم الثلاثاء أنه تم تسجيل درجة حرارة قياسية مؤقتة جديدة في بريطانيا بلغت 40.3 درجة مئوية في كونينغسبي. أما في فرنسا فقد سجلت حوالى 60 بلدة فرنسية، تقع معظمها في غرب البلاد، درجات حرارة قياسية، وشهدت حرائق هائلة. وتزيد موجة الحر الحالية في فرنسا من تعقيد جهود الحكومة لإنهاء حرائق الغابات، إذ هناك 37 قسماً حالياً في حالة "التأهب البرتقالي" لدرجات الحرارة المرتفعة الصادرة عن هيئة الأرصاد الجوية الفرنسية.
لكن الكارثة الأكبر كانت من نصيب البرتغال، التي سجلت أكثر من ألف وفاة بسبب موجة الحرّ الحالية، وتوقعت كبيرة مسؤولي الصحة في البرتغال، غراسا فريتاس، أن تكون بلادها من بين أكثر مناطق العالم تأثراً بالحرارة الشديدة. غير أن هذا التغير المناخي لم تنحسر انعكاساته بالحرائق، فقبل نحو أسبوعين اجتاحت الفيضانات مقاطعة نيو ساوث ويلز، ومدينة سيدني أقدم وأكبر المدن الأسترالية، وأغرقت المنازل والطرق، وأجبرت عشرات الآلاف من سكانها على الفرار، كما ارتفع منسوب المياه في الأنهار بسرعة إلى درجة فاقت مستويات الخطر.
كل ذلك يحدث بسبب نشاطات الإنسان الصناعية والبيئية التي أسهمت بشكلٍ رئيسي في التغير المناخي، ما أدى إلى تطرف الجو وارتفاع شديد في دراجات حرارة الأرض. فانبعاثات الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري زادت مخاطر موجات الحرارة والفيضانات وارتفاع منسوب المحيطات. وحسب "المنظمة العالمية للأرصاد الجوية"، فإن الأعوام الخمسة الأخيرة كانت أحرّ الأعوام التي تم تسجيلها منذ بدأ تسجيل درجات الحرارة في القرن التاسع عشر. وهذا من المتوقع أن يصبح أكثر تواتراً بسبب تغير المناخ حتى العام 2060 على الأقل.
صدمة في المجتمع العلمي
في عام 2020، أصدّر مكتب الأرصاد الجوية البريطانية توقعاتٍ تشير إلى أن الحرارة التي تشهدها بريطانيا اليوم قد تتحقق بحلول عام 2050. لكن رؤية هذا الأمر يحدث في عام 2022 صدم العلماء، ما ينذر بالسوء لمّا سيحمله المستقبل. حتى أن ستيفن بيلشر، رئيس العلوم والتكنولوجيا في مكتب الأرصاد الجوية البريطانية، خرج ليقول في مقطع فيديو عبر الإنترنت: "لم أكن أتوقع رؤية هذا الأمر في مسيرتي المهنية". محذراً في الآن عينه من أنه إذا لم يتم كبح انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، فقد ترتفع درجات الحرارة في المملكة المتحدة كل ثلاث سنوات.
صدمة العلماء تحدثت عنها كورين لو كيري، أستاذة بحوث المناخ في جامعة "إيست أنجليا"، في مقابلةٍ مع صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، مشيرةً أن " الارتفاع في درجات الحرارة القصوى هو نتيجة مباشرة لتغير المناخ الناجم عن انبعاثات الغازات الدفيئة البشرية. وسوف تستمر سجلات درجات الحرارة في أن تكون أكثر تطرفاً في المستقبل".
من جهته، قال دانييل سوين، عالم المناخ في جامعة "كاليفورنيا"، للصحيفة: "أعتقدُ أنه من المحتمل أننا كمجتمع، قللنا بشدة من المخاطر والعواقب المحتملة لأحداث الحرارة الخارجية في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية والمعتدلة، حيث كانت الحرارة الشديدة نادرة تاريخياً".
"القاتل الصامت"
وبالحديث عن موجة الحرّ التي تضرب بريطانيا، نشرت شبكة "سي إن إن" الأميركية، تقريراً استمزج آراء بعض علماء المناخ حول الكوارث التي تعصف بالمعمورة. وأبدى نيكوس كريستيديس، عالم الإسناد المناخي في مكتب الأرصاد الجوية البريطانية، في التقرير، خشيته من أن تتجاوز درجات الحرارة في المملكة المتحدة الـ40 درجة خلال السنوات المقبلة.
ويشير تقرير الشبكة أن الولايات المتحدة عاشت وضعاً مشابهاً بشكلٍ صادم الصيف الماضي لأول مرة، عندما ضربت موجة حرّ شمال غرب المحيط الهادئ، خلفت مئات الضحايا وتسببت بجفاف سريع في تكساس وأوكلاهوما وميسوري وماساتشوستس. وقد شرحت كريستي إيبي، باحثة المناخ والصحة في جامعة "واشنطن"، خطورة هذه الموجات واصفةً إياها بالقاتل الصامت. مستطردةً "الناس بشكلٍ عام غير مدركين ولا يفكرون في المخاطر المرتبطة بدرجات الحرارة المرتفعة هذه. من المهم أن نفهم أن المناخ ليس كما كان حتى قبل بضع سنوات. تؤثر أزمة المناخ بالفعل على حياتنا اليوم، وستستمر في التأثير على الفئات الأكثر ضعفاً".
مصادر المياه
وربطاً بالاحتباس الحراري وكيفية انعكاسه سلباً على حياتنا، وجدت دراسة شاملة جديدة حول تغير المناخ بقيادة المركز الوطني لبحوث الغلاف الجوي الأميركي، أن الموارد المائية ستنقلب بشكلٍ متزايد ويصبح التنبؤ بها أكثر فأكثر صعوبة في المناطق التي يهيمن عليها الجليد عبر نصف الكرة الشمالي بحلول وقتٍ لاحق من هذا القرن. وتظهر الملاحظات أن كتلة الثلج تذوب بالفعل في وقتٍ مبكر، بل وتتراجع في العديد من المناطق. وهذا الانخفاض سيصبح واضحاً جداً في نهاية القرن بحيث أن كمية المياه الموجودة في كتلة الثلج في نهاية فصل الشتاء في أجزاء من جبال روكي الأميركية يمكن أن تنخفض بنسبة 80 في المئة تقريباً.
تفترض الدراسة أن انبعاثات الغازات الدفيئة ستستمر بمعدل مرتفع، واعتمد العلماء فيها على مجموعة متقدمة من عمليات المحاكاة الحاسوبية لملء التفاصيل حول مستقبل موارد المياه، وإظهار مدى تأثير التغيرات في درجات الحرارة وهطول الأمطار، على تراكم الثلوج وأنماط الجريان السطحي في نصف الكرة الشمالي. وبينما تعتمد العديد من مناطق الأرض على تراكم الثلوج خلال الشتاء والذوبان اللاحق في الربيع والصيف لتنظيم الجريان السطحي وتدفق المياه.. تنوه الدراسة بأن كتلة الثلج ستصبح أرق وستذوب في وقتٍ مبكر مع هطول المزيد من الأمطار خلال الأشهر الباردة، ما يعني خسارة العديد من المناطق القدرة على التنبؤ بمصادر المياه. وتشمل هذه المناطق جبال روكي والقطب الشمالي الكندي وأميركا الشمالية الشرقية وأوروبا الشرقية. ويحذر المؤلفون من أن هذا سيعقد بشكلٍ كبير إدارة موارد المياه العذبة، سواء بالنسبة للمجتمع أو النظم البيئية.
مدن ستختفي
إضافةً إلى ما تقدّم، يؤثر التغير المناخي على مستويات البحار الآخذة في الارتفاع بسرعة. إذ تضاعف المعدل إلى أكثر من الضعف، من 0.06 بوصة سنوياً خلال معظم القرن العشرين إلى 0.14 بوصة سنوياً من عام 2006 إلى 2015. بينما تقدر الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ والتابعة للأمم المتحدة، أن هذه المستويات سترتفع من 16 إلى 25 بوصة بحلول عام 2100. وإذا ما ارتفعت مستويات سطح البحار إلى هذا الحد، فقد يتسبب ذلك في حدوث فوضى في جميع أنحاء العالم. وما يصل إلى 250 مليون شخص، عبر جميع القارات، يمكن أن "يتأثروا بشكلٍ مباشر" بحلول عام 2100.
ونذكر من البلاد التي ستتأثر بشدة بهذه الظاهرة، الصين، حيث يعيش 43 مليون شخص في مواقع ساحلية غير مستقرة. وبنغلاديش، حيث سيتعرض 32 مليون شخص للخطر بحلول عام 2100، والهند، مع 27 مليوناً في دائرة الخطر. ووفقاً لـ"المنتدى الاقتصادي العالمي"، سيكون جزء كبير من العاصمة الإندونيسية جاكرتا تحت الماء بحلول عام 2050. كما أن مدناً أخرى كدكا (عدد السكان 22.4 مليون)؛ ولاغوس (عدد السكان 15.3 مليون)؛ وبانكوك (عدد سكانها 9 ملايين نسمة)، يمكن أن تغرق بالكامل أو تكون لديها مساحات شاسعة من الأرض تحت الماء وغير صالحة للاستعمال.
كارثة في أستراليا
وفي سياقٍ متصل بالغ الخطورة، كشف تقرير حكومي أسترالي حجم الكارثة التي تسبب بها الاحتباس الحراري في أستراليا مهدداً الثروة النباتية والحيوانية أكثر من أي وقتٍ مضى، وذلك لأن حرائق عاميّ 2019 و2020 أتت على أكثر من ثمانية ملايين هكتار من الغطاء النباتي، كما قتلت أو شردت ما بين مليار إلى ثلاثة مليارات حيوان في البلاد، وطاول المصير نفسه أكثر من سبعة ملايين هكتار من موائل الأنواع المهددة بالانقراض بين عاميّ 2000 و2017.
ولفتّ التقرير إلى أن أستراليا فقدت أنواعاً من الثدييات أكثر من أي قارةٍ أخرى، إذ ارتفع عدد الأنواع الجديدة المصنفة بأنها مهددة بنسبة 8 في المئة في غضون خمس سنوات. ذاكراً أن سيدني فقدت أكثر من 70 في المئة من نباتاتها الأصلية بسبب التنمية الحضرية.
تعليقات: