إضراب مفتوح «قسري»: القطاع العام يتفكّك واحتمال هروب % 30 من الموظفين


لم يبدأ إضراب القطاع العام المفتوح لأن العاملين لبّوا دعوة «الروابط» إلى الإضراب، بل لأن التعطيل عن العمل هو قرار قسري أجبر العاملون على اتخاذه بفعل تضخّم الأسعار وانعدام جدوى النزول إلى العمل مقارنة مع كلفة الانتقال إليه، ومع سائر الأكلاف. الأمر كلّه بدأ مع انهيار الليرة، بالتزامن مع جائحة كورونا التي استغلّتها قوى السلطة لكبح أي تحرّكات في الشارع. كانت هذه المناسبة، فرصة للقول إن التوقف عن العمل يغطّي تآكل القوّة الشرائية للأجور. بدا الأمر لوهلة، مكسباً، في ظل ضبابية المشهد وحالة الإنكار التي مارستها السلطة. لكن مع تقدّم الوقت واتضاح الرؤية وتسارع التدهور في سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وتسجيل تضخّم كبير في الأسعار، صار التوقف عن الحضور إلى العمل موقفاً قسرياً مفروضاً على كل موظّف في القطاع العام. ففي السنوات السابقة، دعت روابط موظفي القطاع العام إلى الإضراب المفتوح أكثر من مرّة، لكن لم يلبّ أحد الدعوة، بل كانت هناك نظرة شبه موحّدة لهذه الروابط التي أصبحت أحد أبواق السلطة منذ إسقاط حنّا غريب في رابطة التعليم الأساسي في أيار 2015 لمصلحة لائحة «الوحدة النقابية» التي تحالفت فيها أحزاب 8 آذار و14 آذار. فبعد أقلّ من سنة خسر محمود حيدر معركة رابطة موظفي الإدارة العامة أمام اللائحة المدعومة من حركة أمل ويختبئ فيها مندوبو قوى السلطة... كرّت السبحة في كل الروابط حتى صارت كلّها «تحت السيطرة» ولا تختلف بكل المقاييس عن الاتحاد العمالي العام. كل المعارك التي خيضت سابقاً تحت عناوين تشبه «تصحيح الأجور حق»، أو مثل «تراجع حصّة الأجور من الناتج المحلّي الإجمالي لمصلحة ارتفاع حصّة الأرباح»، أو الكلام عن امتناع السلطة عن تصحيح أجور القطاع العام منذ 1996... انتهت بعد معركة سلسلة الرتب والرواتب وما سبقها، إلى «خدش في النمط الاقتصادي» لم يمنع الانهيار. «الخدش» كما وصفه الاقتصادي شربل نحاس، هو رفع ضريبة الفوائد من 5% إلى 7%، وهذا وحده لم يكن كافياً. فالمعركة كما كان مخطّطاً لها، تفترض إطلاق شرارة التغيير في النمط الاقتصادي القائم من خلال تصحيح الأجور في القطاع الخاص، ثم يلحقه تصحيح الأجور في القطاع العام، ما يضع ضغطاً على النظام الضريبي يؤدي إلى كسر الجدار الذي وضعته قوى السلطة في وجه «الأجر الاجتماعي». فالأجر بهذا المعنى هو إقرار التغطية الصحية الشاملة الممولة بالضريبة والتعليم الأساسي المجاني.

عملياً، كانت هذه الخطّة مدعومة بأمرين: الأول هو أن التيار الوطني الحرّ سيضع ثقله في مواجهة السلطة لكسر النمط، والثاني هو أنه كان لدى الروابط هامش من الحريّة التي تسمح بممارسة الضغط ولم تكن أسيرة السلطة وأحد أجنحتها بعد. انتهت المعركة بهذا «الخدش» البسيط في تموز عام 2017 بعدما سقط التيار والروابط في براثن السلطة.

لهذه الأسباب الموضوعية، لا يمكن أن نتوقع أن تصبح الروابط قائدة لمعركة الإضراب المفتوح، وللأسباب هذه لم يكن باستطاعتها أن تقدّم أي اقتراح. فهي إلى جانب كونها تمثّل القوى التي يفترض أن يواجهها الموظفون في معركتهم، فإنها فاقدة للشرعية التمثيلية أيضاً. وهو الأمر الذي سهّل سعي المديرين من الفئة الأولى والثانية في الإدارات العامة للاستيلاء على نفوذ الروابط والادعاء بأنهم يمثّلون مصالح العاملين في القطاع العام. وهذه الفئة ستجتمع اليوم، للمرّة الثانية، مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لإقناعه ببعض الاقتراحات التي ستصبّ غالبيتها لمصلحتهم الشخصية. وهي تحاول إثارة مسألة أساسية وهي أنها تعادل القضاة في الموقع الوظيفي وإن كانت ليست سلطة قائمة بحدّ ذاتها كما هي حال القضاة. وعلى هذا الأساس تطالب بمنح المديرين الحلّ الذي أعطي للقضاة، أي تحويل رواتبهم على أساس سعر صرف يبلغ 8000 ليرة بعد تحويل أصل الراتب إلى دولار على سعر صرف يبلغ 1500 ليرة.


الروابط تمثّل القوى التي يفترض أن يواجهها الموظفون

بين الإضراب المفتوح، والحلول بتحويل الرواتب على سعر صرف جديد مضروباً بخمسة أضعاف، أو تصحيحها من خلال زيادة الاعتمادات في الموازنة مقابل زيادة الضرائب... كلها حلول سيئة بمفاعيل تضخمية لما هو أسوأ؛ إذ إن هناك تقديرات تشير إلى أن الامتناع عن تصحيح الأجور وعدم منع الموظفين من الاستقالة المبكرة سيدفع أكثر من 30% منهم إلى الهروب من الوظيفة العامة، وهؤلاء من أصحاب الكفاءات والخبرة الذين لديهم القدرة على العمل في الخارج، ويعملون في وظائف عدة منها عسكري وأمني، ومنها إداري ومنها تقني وفني... ففي ظل طروحات كهذه ليست مبنية إلا على مقاربة ضمن الـ«صندوق» نفسه الذي اعتمدته السلطة سابقاً لإدارة النمط الاقتصادي، أو تعتمده حالياً لإدارة الأزمة التي وقع فيها هذا النمط، لن يحصل «خدش» واحد، بل مزيد من التحلّل وتفكّك في البنية المؤسسية للقطاع العام، إلى جانب كلفة باهظة ستدفعها الفئات الاجتماعية التي كانت وسطى، والفئات الفقيرة والمهمشة والأكثر فقراً، لتمويل خسائر المصارف، ولتمويل الجهل في إدارة الأزمة أيضاً. حتى الآن، لا يوجد حلّ خارج تلك الخطّة التي كان ينفّذها شربل نحاس، أي الخطّة القائمة على «الأجر الاجتماعي» الذي يتمثّل في التغطية الصحية الشاملة المجانية والممولة بالضريبة، والتعليم الأساسي المجاني، ونقل عام مجاني أو شبه مجاني أيضاً. رفع هذه الأكلاف عن أجور الأسر لن يخلق تضخماً في الأسعار تؤدي إليه الخيارات الأخرى المتاحة، بل سيتيح إدارة الأزمة نحو أكثر من «خدش» في النمط. خارج ذلك، فإن تفكك المؤسسات لن يخلق الفوضى فحسب، بل سيتيح لقلّة من الأثرياء الاستيلاء على الأملاك العامة بثمن بخس، وشراء ولاءات من لم يهاجر بعد بثمن بخس أيضاً.

تعليقات: