«جوع الطوائف» والتطبيع


يشكّل الانهيار الحياتي وتصاعد الانقسام الطائفي فرصةً لا تعوّض أمام كيان العدو لتسلّل النفوذ الصهيوني المباشر إلى لبنان. استغلال مآسي اللبنانيين «عادة» قديمة، تهدف دائماً إلى تفكيك ما تبقى من اللحمة الاجتماعية والمناعة الوطنية، وإحداث اختراق أمني وسياسي واسع في المجتمع والدولة. عام 1976، استغلّ العدوّ اندلاع الحرب الداخلية، والفقر والإهمال في الجنوب، فأعلن عن مشروع «الجدار الطيب» لاختراق الساحة الجنوبية واللبنانية من بوابة المساعدات الغذائية والطبيّة.

وعلى جبهة الجولان السوري، ما إن اندلعت شرارة الحرب على دمشق في 2011، حتى نشطت أجهزة العدوّ في التسلّل من جراح السوريين. ولم تمرّ السنة الثانية من الأزمة، إلّا وأعلن الاحتلال عن مشروع «الجدار الطيب» بين الجولان المحتل ودرعا والقنيطرة.

أكثر من مرّة، طرح ضباط العدوّ الإسرائيلي في الاجتماعات الثلاثيّة في الناقورة مع الجيش اللبناني بوساطة «اليونيفيل»، تقديم مساعدات مادية وتقنية للبنان، بذريعة المساعدة على مواجهة الانهيار، في بداياته. طبعاً، قوبلت الخدع الإسرائيلية بالإهمال من الجانب اللبناني، لكن تتكرّر في الإعلام العبري، منذ ذلك الحين، عروض قادة الاحتلال بالاستعداد لمدّ «يد العون».

ليس بالضرورة، أن تندرج قضية المطران موسى الحاج ضمن هذه المعادلة. لا يحتاج العدوّ إلى مطران لينقل أموالاً لعملاء. وقد تكون الأموال التي ينقلها المطران (خلافاً للقانون اللبناني) فعلاً من لبنانيين وفلسطينيين يعيشون في الداخل لأسباب متعددة (مع وجود ملفات أمنية بحق بعض الأسماء)، وينقلونها إلى أقاربهم، أو من «مؤمنين» يدعمون محتاجين من أتباع الكنيسة المارونية أو مشيخة العقل أو مشايخ آخرين في طائفة الموحدين الدروز.

منذ سنوات، تحصل تجربة مشابهة. يتولّى شيخ عقل طائفة الموحّدين الدروز في فلسطين المحتلة موفّق طريف ومشايخ آخرون جمع مبالغ ماليّة من الدروز الفلسطينيين أو من أهالي الجولان المحتلّ، وإيصالها إلى لبنان والشام لـ«مساعدة» المحتاجين في الطائفة، تحت عنوان «فريضة حفظ الإخوان». يشكّك كثيرون في أن المبالغ التي تُجمع تصل كما هي، من دون أن تتعرض لحسومات العمولات التقليدية. لكن ليس سرّاً أن المال يصل إلى لبنان من حوالات من الأردن أو قبرص أو مباشرةً عبر مسافرين. حتى إن بعضه يصل إلى دمشق، وقد أوقفت الأجهزة السورية قبل مدّة أحد اللبنانيين وهو ينقل مبلغ 50 ألف دولار وجهتها السويداء، ومصدرها فلسطين المحتلة.

هي، إذاً، بوابة الجوع والعوز، النافذة المناسبة لكسر المناعة السياسيّة أمام التطبيع مع العدوّ، وعبر العنوان الطائفي، حيث تمنع ديناميات الانقسامات الداخلية ومنطق الخطوط الحمر للطوائف أن يبقى النقاش على المستوى الوطني، وعلى مستوى تطبيق القانون، من دون حصانات، ويتحوّل سريعاً إلى خانة الشحن الطائفي والتمييز.

يكفي العدوّ أن في لبنان من هو مستعد لتلقّي المال، بغضّ النظر عن المصدر، ولو كان من فلسطين المحتلة، وأن الطوائف تستنفر للدفاع عمّن يخصّها، كما حصل مع المواطنة اللبنانية التي عادت إلى منطقة حاصبيا قبل أشهر من فلسطين المحتلة، وقطع عدد من المشايخ الدروز الطرقات، استنكاراً لاستجوابها من قبل الأجهزة الأمنية في إجراء روتيني عادي.

ورد في إفادة المطران موسى الحاج، بتاريخ 5 أيار 2022، أن «المطارنة في لبنان اتفقوا بعد انفجار 4 آب، على أن تقوم أبرشية حيفا والنيابة البطريركية في القدس بجمع التبرعات النقدية من المؤمنين في فلسطين المحتلة ونقلها إلى الكنائس المارونية والأرثوذكسية والكاثوليكية في لبنان...». إذا ابتعدنا عن السؤال الأساسي، حول سماح العدوّ الإسرائيلي للمطران بنقل مبالغ بهذا الكمّ من الداخل المحتل بشكل متكرّر، بمعزل عن الجهة المستفيدة، أو إمكانية سماحه بنقل الأموال بالعكس من لبنان إلى لبنانيين أو فلسطينيين في الداخل، فهل أطلع المطارنة السلطة السياسية وأجهزة الدولة على هذا القرار؟ هل تم التنسيق مع الأجهزة الأمنية والقضائية والتصريح عن الأموال المنقولة ومصادرها ووجهتها؟ وهل يصرّح من يتلقى الأموال عن مصادره أو تعرف هويته؟ إذا كانت السلطات الدينية أعلى شأناً من سلطات إنفاذ القانون، فهذا يعني أن كل طائفة ستشكل عمّا قريب جهازها الأمني والقضائي وتعلن قوانينها الخاصة، على الرغم من عظات البطريرك بشارة الراعي ومطالبته الدائمة بالدولة القويّة.

أمّا الحاجة، فلا يمكن أن تتحوّل إلى مبرّر لتلقّي الأموال من الأعداء، أو على الأقلّ بإشرافهم. فالجوع عند الشعوب الحيّة يشكّل دافعاً للتحرر الوطني والتحرير من الاحتلال، لا باباً للارتزاق على آلام الشعب، أو مدخلاً للتخلّي عن القضايا الوطنية.

تعليقات: