الملعب البلدي يأكله العشب والهجران
قبل أسابيع، انتشرتْ صورٌ للملعب البلدي في الطريق الجديدة، تبيّن أن العشب البري واليابس قد غزاه بالطول والعرض وينقصه قطيع ماعز فقط... يوحي المكان أنه أطلال جمهورية معطلة، مهجور، لا يزوره زائر ولا تطأه أقدام لاعبين أو رياضيين، ولا تمسه أيدي عمال ولا أشغال صيانة، ويباس عشبه يشبه يباس البلدية نفسها...
وقبل هذه الصور، انتشرت صورٌ للمدرجات وقد أصبحت غير صالحة للاستعمال، بسبب الإهمال المزمن، نبت العشب بين الكراسي بل في الكراسي التي تكدس عليها الغبار والتراب، في مشهد يدلّ على إنجازات بلدية بيروت الموقّرة في زمن الريس جمال عيتاني أو غيره، وتعاطيها الكارثي والمخجل مع المرافئ العامة... والنافل أن البلدية، وتحديداً في زمن الريس بلال حمد، كانت تسعى الى إقامة مشروع خنفشاري مكان الملعب البلدي من خلال هدمه وتحويله إلى مرآب كبير للسيارات، مع تشييد ملاعب صغيرة للـ"ميني فوتبول"... كأن كل شيء في وجدان الريس يقوم على جمع المال والسمسرة العقارية، ولا شيء سواهما...
البلدية نفسها، بلدية السمسرة والفساد، كانت تسعى الى تدمير حديقة الصنايع، تريد قلع أشجارها المعمّرة وإقامة مرآب للسيارات تحتها، ربما العالم الغيبي وحده أنقذ الحديقة الأثرية أو الباقية من الزمن العثماني. من بين ضحايا مشاريع بلال وحمد وسلفه، ومعهما محافظ بيروت، حديقة حسن خالد في عائشة بكار، التي لم يأت من يقف في وجه البلدية ويمنعها من التدمير، اذ سارعت البلدية الى التلزيم والتدمير زاعمة أنها تقدم مشروعاً انمائياً لحيٍّ في المدينة، ووقعت الواقعة... تصدع الاقتصاد بسبب ارتفاع الدولار وترهلت الإدارات بسبب كورونا، فألغى المحافظ المشروع لعدم توافر المال، وتحولت مكان الحديقة إلى خرابة أو بورة.
ليست أزمة بلدية بيروت بمنأى عن أزمة الجمهورية اللبنانية وتصدعاتها وعهدها القوي، وليست بمنأى عن أزمة معظم البلديات الكبرى وحتى الصغرى...
لا أسكن في بيروت، لكن حين تفرض عليّ متطلبات الحياة أن أزورها، لشراء شيء ما، أو تخليص معاملة ما، أشعر أنها تعيش حالة حرب غير مرئية، خصوصاً بعد الأزمات المتعاقبة الصحية (كورونا) والكهربائية والاقتصادية والكارثية (انفجار المرفأ)... أمرّ في منطقة الكولا، في طريقي إلى الحمرا، أعبر نفق سليم سلام، أتخيّل كمّ الأموال التي سرقت من أجله؟ قلت ذات مرة لأحد الأصدقاء إنهم لزموا نفقاً صغيراً وكأنهم يلزمون قناة السويس في زمانها...
في المحصلة، في خلال عبور بيروت، تتكرر مشاهد بؤس، نفايات مكدّسة، عصارتها على الأرصفة، فوضى سير ودراجات نارية، لا إشارات مرورية (بالطبع لا كهرباء)، كم هائل من المتسولين المنتشرين (خصوصاً في الحمرا)، سرقات، حدائق صغيرة مهجورة، بول وبراز في الزوايا وتحت الأشجار... في بعض المناطق، قيل إن لصوص الخردة سرقوا أغطية الريغارات، خصوصاً بعد انفجار المرفأ، أحياناً كنتُ ألاحظ أن بعض الناشطين يقومون بما يجب على البلدية القيام به.
ما أقوله عن واقع عمل بلدية بيروت، لن يختلف عن واقع بلدية برج حمود أو برج البراجنة أو الغبيري أو الشويفات أو صيدا أو بعلبك، ذلك أن الأحزاب المهيمنة جعلت البلديات امتداداً لحضورها السياسي القاحل والجاف والفاسد والمنافق، وليس "لأفكارها" الإنمائية والحياتية. الأحزاب تحوّل البلديات مراكز مليشيوية مهمتها تعليق الأعلام وتمجيد القائد، أو تمرير الصفقات للأزلام والمحسوبين، أو توظيف الأتباع...
ولم يكن ينقص بلدية بيروت إلا مشاريع التقسيم لـ"يكتمل النقل بالزعرور"، كما قيل، ويعم التلاقي والإزدهار والعيش المشترك وتنتعش السياحة وتفتح المقاهي من جديد وتعود العاصمة درّة الشرق والعرب... لم يكن ينقص الواقع المر إلا تسابق بعض النواب من منطلق شعبوي وطائفي وحزبي على تقديم مشروع لاستحداث بلدية خاصة بالمناطق المسيحية أو شبه المسيحية، بزعم أن بلدية بيروت تهمل تلك المناطق...
لا تشبه مشاريع بعض النواب لتقسيم بلدية بيروت، إلا تلك الأعشاب اليابسة التي غزت الملعب البلدية في الطريق الجديد، هؤلاء النواب يدلفون علينا بتصريحات أن المشروع ليس طائفياً بل إنمائياً، وبعضهم يربّحنا جميلاً ويعطي دليلاً على لاطائفية مشروعه بأن حي بيضون مُسلم في منطقة الأشرفية المسيحية، ولا يخجل من الوعظ باستحضار مثال بلديات باريس المتعددة بتعدد الدوائر العشرين للمدينة، وبأن مشروع التقسيم أو الاستحداث هو من أجل الشفافية والمحاسبة. بالتأكيد، القضية في البلدية أبعد من الشعارات والتصريحات، فحتى لو كانت بلدية بيروت مثالية في الإنماء وعلى أحسن قيراط، فهذا الأمر لن يرضي بعض الفئات التي لا ترضى إلا بذاتها، ولا تستطيع التعايش مع الآخر. والأمر هنا لا يتعلق ببلدية بيروت وحدها، فبلديات كثيرة معطلة بسبب الاختلاط الديموغرافي، أو الصراع العائلي بين قرية وأخرى. ليس السعي إلى تقسيم بلدية بيروت، إلا دليلاً على أزمة الجماعات اللبنانية في علاقتها ببعضها البعض في مرحلة أنتجت أتفه الزعماء وأكثرهم انحطاطاً...
لم يخطئ مَن وصف ما يجري بأنه "انقسام فوق جثة"، لم ينتبه ورثة شعارات "من كفرشيما للمدفون"، وربما يغضون النظر عن أن محافظ بيروت المسيحي أو الروم أرثوذوكس هو الحاكم بأمره في بلدية بيروت، ولا يستطيع مجلسها أو رئيسها التصرف بقشة من دون موافقته، هم يسعون إلى تكريس صورة قديمة، ربما هي حاضرة بالمعنى السوسيولوجي، أي أسطوانة "شرقية" و"غربية"... ليست المشكلة في النظرة إلى بلدية بيروت والسعي الى تقسيمها، المشكلة أن من يطالب بتقسيمها ساهم في تصديع كل شيء، لقد جعلت السلطة المهيمنة الأمن على شاكلتها، والقضاء على شاكلتها، وحوّلت الحكومة إلى حكومات... عما قريب سنسمع مَن يطالب بعملة مسيحية وعملة إسلامية، على أن بعض المدافعين عن وحدة بلدية بيروت، هم أيضاً من المساهمين البارزين في عمليات تصديع الأمن والقضاء وتكريس الفرز الديموغرافي وتهجير ناس بيروت...
ما سيحصل في المرحلة المقبلة، أن بيروت ستودع "المناصفة" التي لطالما تغنى بها بعض السياسيين، واعتبروها تحمي "العيش المشترك"، فالشحن المذهبي سيولد مزيداً من التقوقع وقليلاً من الإنماء.
حديقة المفتي حسن خالد.. بورة
تعليقات: