تنامي لغة التقسيم والشرذمة (Getty)
يبدو المسرح اللبناني مهيئًا للكثير من عروض الجنون. منسوب الاستعار المذهبي والطائفي يرتفع. وهو قابل للاستعار أكثر مع اقتراب استحقاقات كبرى وأساسية، وكلما اشتدت آليات التفاوض في الخارج، سواء واجهت المزيد من العراقيل أم حققت بعض التقدم وصولًا إلى ارساء اتفاقات وتفاهمات. قد يحدث صدام في حال اتجه الوضع نحو الخيار الأول، وقد يكون التصعيد كبيرًا. أما في حال رسو الوضع على تجدد المفاوضات النووية، واحتمال لقاء ديبلوماسي سعودي- إيراني في العراق، ربطًا بما يُحكى عن تقدم في ملف ترسيم الحدود في لبنان، فتكون تداعيات ذلك السياسية حماسية على البعض في لبنان وترضيهم، لكنها تغضب آخرين.
عسيس طائفي
لبنان اليوم أمام معادلة شديدة الحساسية. ولطالما كانت تنعكس سريعًا تعقيدات الخارج أو انفراجاته على الواقع الداخلي. وكان من يعارض "تلفظه" اللعبة مرحليًا، كما حصل في التسعينيات بعد اتفاق الطائف. اليوم يبدو الواقع مختلفًا إلى حدود بعيدة. فهناك انهيار مالي واقتصادي غير مسبوق، وتنام في الخطاب الطائفي والعنصري، في سياق صراعات تخوضها الطوائف والقوى السياسية. وهذا يبدأ من مواقف حزب الله في استكماله مسيرة "أشرف الناس"، وصولًا إلى ما قاله رئيس المجلس التنفيذي في الحزب السيد هاشم صفي الدين: "الحزب صبر 40 سنة على بعض المكونات".
والجديد إظهار التفوق التعليمي في نتائج الشهادات الرسمية لدى الطائفة الشيعية. وانعكاس ذلك في تكريس قطيعة شيعية مع الآخرين، ردًّا على ما قالته شخصيات من طوائف أخرى بأن لا تشابه بين اللبنانيين المسيحيين والمسلمين عمومًا، والشيعة خصوصًا. وهذا استفز أبناء الطائفة الشيعية الذين عملوا على ردّ الحملة بإظهار تفوقهم، العسكري، السياسي، والتعليمي.
قوة حزب الله
يؤسس هذا لمخاطر أكبر في المرحلة المقبلة. فلا حزب الله في وارد التراجع أو التنازل عن مكتسباته التي حققها، ولا الآخرون لا سيما معارضوه، يرتضون اعترافًا إقليميًا أو دوليًا بتسيده على الجميع. ربما ارتضى بعض المسيحيين ذلك منذ العام 2016. ولكن حاليًا ثمة وقائع كثيرة تغيرت: تفاعل قضية توقيف المطران موسى الحاج. الدعوات إلى تقسيم بلدية بيروت، وإلى تكريس الفيدرالية أو اللامركزية المالية والإدارية الموسعة.
ولا ينفصل هذا عن الصراع القائم حول الوجهة الاقتصادية التي يُفترض إرساؤها في لبنان، على وقع انهيار القطاعات والمؤسسات والمرتكزات.
ولا يقتصر الجنون على الجوانب المالية والاقتصادية والقضائية، ولا ينحصر بالصراع السياسي بل يتعداه إلى الانقسام العمودي الحاد بأبعاده الطائفية، المثقلة بأحقاد تاريخية. أحقاد قابلة للتوسّع في حال الوصول إلى اتفاق ترسيم الحدود، ونجاح حزب الله في إرساء معادلته فيه، ونسبته الانتصار لنفسه، ما يكرسه صاحب دور أكبر في المرحلة المقبلة، باعتراف إقليمي ودولي، في حال حصل اتفاق نووي بين إيران والغرب.
استقواء باسيل وتحطيم السوريين
الانعكاس الأول لهذه المآثر هو بتنامي لغة التقسيم والشرذمة، وتفاقم النزعة التفوقية لدى أبناء الطائفة الشيعية، في مقابل لهجة مسيحية متعالية. وكان التيار العوني أول من افتتحها بتغذية النزعة التفوقية لدى طرح جبران باسيل. ومشكلة هذه النزعة أنها لا تتوقف عند حدود جغرافية، بل تتجاوزها للتعالي على اللاجئين، سوريين أو فلسطينيين.
حزب الله عمل على تغذية هذه النزعة إبان اندلاع الثورة السورية وانخراطه العسكري في مواجهتها وسحقها. وهنا لا حاجة للعودة إلى وقائع الخطاب الذي ارتكز عليه حزب الله ومقاتليه في سوريا، لدى دخولهم إلى كل منطقة من المناطق السورية، وبعد تهجيرهم أهلها، أو إلقائهم القبض على مواطنين أو مقاتلين سوريين.
الأزمات مستمرة
من كرس نزعات التفوق هذه، لن يقدم أي تنازل في أي من الميادين، لا السياسية ولا العسكرية. ولدى بلوغ جماعة هذا المستوى من الصلف، لا بد من توقع حجم المخاطر المحدقة.
هنا تنقلب الآية سياسيًا، وتبرز الخشية من أن يتلقف بعض الأطراف أي تقارب إقليمي ودولي بشكل سلبي، وعلى قاعدة معارضته، وعدم الاعتراف بأي مكسب قد يحققه حزب الله. حينذاك تتعزز الدعوات الانقسامية، وتتنامى لغة الاستعار الطائفي، فيتجدد الصراع على وجهة البلد وهويته. وهذا ما تكون له ترجمته في الوقائع السياسية: من انتخاب رئيس للجمهورية إلى تشكيل الحكومة وما يليها من إعادة هيكلة غالبية القطاعات. وعليه لا يبدو أن الأزمات ستتوقف مع إنجاز اتفاق ترسيم الحدود، أو خروج رئيس الجمهورية من بعبدا، أو انتخاب رئيس جديد.
تعليقات: