منذ بداية السنة، استبقت المصارف خطّة التعافي المالي بمكر (عباس سلمان)
أظهرت أرقام جمعيّة المصارف أنّ قيمة الشيكات التي جرى تداولها بالعملات الأجنبيّة بين المصارف، عبر مقاصّة مصرف لبنان، لم يتجاوز حدود 5.88 مليار دولار في النصف الأوّل من هذا العام، أي لغاية شهر حزيران الماضي. وبذلك، تكون قيمة الشيكات المتداولة بين المصارف بالعملة الأجنبيّة قد انخفضت في النصف الأوّل من هذه السنة بنسبة 48.34%، مقارنة بالنصف الأوّل من العام الماضي، والذي بلغت خلاله قيمة الشيكات المتداولة بالعملات الأجنبيّة حدود 11.38 مليار دولار. مع الإشارة إلى أن حجم الشيكات المتداولة بالعملات الأجنبيّة في النصف الأوّل من هذه السنة تراجع بنسبة 73%، مقارنة بالفترات المماثلة في سنوات ما قبل الانهيار المصرفي، حين كانت قيمة هذه الشيكات تتجاوز حدود 22 مليار دولار في النصف الأوّل من العام.
حركة الشيكات: أدنى مستوى منذ بداية الأزمة
بالتأكيد، لا يرتبط هذا الانخفاض السريع في حركة الشيكات بأزمة الودائع التي بدأت في تشرين الأوّل 2019، بدلالة أنّ حركة الشيكات بلغت خلال الفترة نفسها من العام الماضي (النصف الأوّل من السنة) ضعف حركة هذه السنة، رغم أن البلاد كانت دخلت أزمة الودائع قبل نحو عام وشهرين من بدء السنة الماضية. كما يمكن للمتابع أن يلاحظ بسهولة أن حركة الشيكات في الفترة عينها من العام 2020 لم تختلف كثيرًا عن حركتها عام 2019، رغم أن أزمة الودائع بدأت في آخر شهرين من العام 2019، ما يعني أن أزمة الودائع لم تحد من حركة الشيكات. كما لم يشهد أي عام سابق الانخفاض ذاته في حركة الشيكات التي شهدها هذا العام.
لا بل على العكس تمامًا، وطوال السنتين الماضيتين، استمرّت نسبة كبيرة من المودعين باستعمال الشيكات المصرفيّة المدولرة لسداد إلتزاماتها، حيث اعتمد التجّار على احتساب قيمة الشيكات المدولرة كنسبة معيّنة من الدولار النقدي. وطوال هذه الفترة، كان بإمكان بعض الشركات استعمال "اللولار" عبر الشيكات لدفع الرواتب أو سداد بعض المستحقات، والتي كان يتم سحبها لاحقًا وفقًا لسعر الصرف المعتمد في التعميم رقم 151 (تم رفعه من 3900 إلى 8000 ليرة للدولار في الشهر الأخير من العام الماضي). ولهذا السبب بالتحديد، لم تنخفض حركة الشيكات المصرفيّة في أي مرحلة سابقة إلى مستوى حركة الشيكات التي تم تسجيلها في النصف الأوّل من هذا العام. مع العلم أن استعمال الشيكات المدولرة في المدفوعات سمح لصاحب الوديعة بالاستفادة من قيمة سيولته المصرفيّة، فيما تمكن بعض المستفيدين من الشيكات من سداد بعض الإلتزامات المتوجبة عليهم لمصلحة المصارف من خلال "الدولارات المحليّة" التي تقاضوها.
تجدر الإشارة إلى أن الهبوط السريع في حركة الشيكات هذه السنة اقتصر على الشيكات المتداولة بالعملات الأجنبيّة، إذ كان من الواضح أن قيمة الشيكات المتداولة بالليرة اللبنانيّة ارتفعت بأكثر من الضعف هذه السنة. بمعنى آخر، استعاضت السوق عن ضمور حركة الشيكات المتداولة بالعملات الأجنبيّة بحركة الشيكات المتداولة بالليرة، رغم كل الانخفاضات المتتالية بسعر صرف الليرة، وعدم ثقة التجّار باستقرار سعر صرفها لأكثر من بضعة ساعات أو أيام.
إجراءات مصرفيّة مستجدّة
باختصار، ولفهم الانخفاض غير المسبوق في حركة الشيكات المتداولة بالعملات الأجنبيّة خلال النصف الأوّل من هذا العام، تكفي العودة إلى مجموعة الإجراءات التي اتخذتها المصارف اللبنانيّة منذ بداية هذه السنة، وبشكل متزامن، بخصوص آليّات إيداع الشيكات في الحسابات المصرفيّة. وجميع هذه الإجراءات، هدفت إلى حصر حركة تداول الشيكات، ومنع إيداعها في حسابات العملات لديها، إلا في حالات الضرورة القصوى، أو لعدد محدود جدّا من الشركات التجاريّة. وحتّى عند الموافقة على إيداع الشيكات في الحساب، أصرّت المصارف على حرمان المودع من سقف السحوبات النقديّة بالليرة من الحسابات المدولرة (أي بسحب التعميم 151، بسعر 8000 ليرة للدولار).
هكذا، قررت المصارف فرض "كابيتال كونترول" من تلقاء نفسها، على الحركة الداخليّة للسيولة المصرفيّة، بعدما فرضتها منذ تشرين الأوّل 2019 على عمليات سحب الدولار النقدي والتحويلات إلى الخارج، من الدولارات المحليّة. كما تكاملت هذه الخطوات مع خطوات أخرى اتخذتها بعض المصارف بشكل متدرّج، قضت بالتوقف عن استقبال الحوالات الداخلية الواردة (أي الحوالات الواردة من مصارف أخرى محليّة داخل لبنان).
مع الإشارة إلى أنّ المصارف كانت قد اتخذت خلال العام الماضي قرارات مشابهة، قضت بالتضييق على حركة الشيكات في حسابات عملائها، لكن هذه القرارات لم تكن بصرامة الإجراءات نفسها التي تم فرضها منذ بداية هذا العام، والتي بلغت حد وقف عمليات إيداع الشيكات للغالبيّة الساحقة من العملاء.
استباق قانون إعادة هيكلة المصارف
ما تريده المصارف من كل هذه القيود هو تقليص قيمة إلتزاماتها للمودعين بأي طريقة ممكنة، ولو عبر وقف قبول "اللولارات الجديدة"، التي يمكن تتأتى من إيداع الشيكات لديها. أمّا الهدف النهائي، فهو استباق مندرجات القانون الطارئ لإعادة هيكلة المصارف، وتقليص حجم السيولة التي يُفترض أن يضمنها ويسددها كل مصرف على حدة لكل مودع لديه، لغاية مبلغ محدد (سيتراوح بين 100 و150 ألف دولار حسب خطة التعافي). وبذلك، وعبر تخفيض حجم كل وديعة من خلال رفض قبول الشيكات، سيكون بإمكان كل مصرف تخفيض حجم السيولة المطلوبة لضمان ودائعه، حسب السقف الذي سيتم تحديده في قانون إعادة الهيكلة. مع العلم أن تقييم قدرة كل مصرف على البقاء في السوق، أو فرض تصيفته أو دمجه، سيعتمد تحديدًا على مدى قدرته على ضمان الودائع حسب المبلغ النهائي الذي سيتم تحديده في قانون إعادة الهيكلة.
ببساطة، ومرة جديدة، استبقت المصارف خطّة التعافي المالي بمكر منذ بداية السنة، فيما ستأخذ الخطّة بالاعتبار أرصدة الحسابات المصرفيّة كما في 31 آذار الماضي، لضمان الودائع الموجودة فيها، ما يعني أن الإجراءات المصرفيّة استبقت هذا التاريخ بنحو ثلاثة أشهر. وكما هي العادة، لم يتدخّل مصرف لبنان إزاء أي من هذه الإجراءات المصرفيّة المجحفة بحق العملاء، رغم أن رفض قبول الشيكات المصرفيّة من دون مبرر يمثّل مخالفة صريحة لتعاميم مصرف لبنان.
تعليقات: