الكاتب الدكتور يوسف غزاوي
البارحة، قصدتُ كرم جدّي لوالدتي (المرحوم الحاج أبو علي محمد أمين الشيخ علي) الذي كان يعجّ فيما مضى بأشجار التين بأكوازها الصفراء المميّزة (المنوّعة بين عسلانيّ، بقراتيّ، شتوانيّ، فرنسيّ وغيره)، الحبلى بالضوء تحت أشعة الشمس الذهبيّة كلآلىء كونيّة، إن لم أقل كأسرجة ضوء في عز الصيف والنور.
كنتُ أذهب، وأنا صغير (برفقة ابن خالتي رضا وهبي، حاليًّا طبيب أسنان)، مع جدّي وخالتي لقضاء النهار بكامله في الكرم (المتواجد في أطراف القرية البعيدة من الوطن كابتعاد القمر عن الأرض) لحراسته من عبث المارّة واللاهين وأفواه القطعان المتواجدة في المنطقة. كنّا نمضي النهارات كأنّنا في حلم.
كان العرزال قصرنا الملوكيّ، وكانت الألعاب تتنوّع بين الفخّ لاصطياد العصافير والطائرة الورقيّة، التي كنتُ أُجيد صناعتها، والمراوح، من عيدان الأشجار المُبتكرة بفنّيّة كبرى، حتى أنّي، إحدى المرّات، تسبّبتُ بجرح كبير في سبّابتي، بسبب حدّة السكّين المستعمل لصناعة المراوح، وقد عانيتُ كثيرًا حينها بسبب فقداني للدم المدرار النازف من يدي لدرجة أنّ الأرض كانت تدور، وأدور معها. ولأنّ المنطقة كانت تخلو من مقوّمات السكن والحياة والإسعاف لبعد الكرم جغرافيّا عن البلدة، فلم يكن أمامنا إلّا اللجوء إلى حيث يتواجد الجيش اللبنانيّ في نقطة عسكريّة لم تكن بعيدة من الكرم (ما زالت آثار الجرح في أصبعي)..
لحظات جميلة وجنونيّة عشناها في تلك الزاوية من زوايا العالم المنسيّة إلّا من الفقر والمعاناة في زمن غابر قست الحياة على ساكني هذه الأمكنة الجميلة المفعمة حبًّا وتضحية وعطاءً، بالرّغم من قساوة الحصول على لقمة العيش، إلّا أنّها أزمنة خير وتضحية إذا ما قسناها بقساوة هذا الوقت الذي نعيشه..
اليوم، وبعد عقود كثيرة من الزمن، لمّا تزل تلك الشجرات تقاوم، وتعطي دون مقابل، لكنّ عطاءها يحمل خراب الأمكنة والإهمال لغياب الجدّ المؤسّس، فتحوّلت تلك الأكواز إلى أسرجة مُطفأة سوداء إنقطع منها الضوء كانقطاع الكهرباء المستمرّ في هذا الوطن، وحيث الأبناء الورثة تحوّلوا إلى وحوش تتناهش بعضها طمعًا بمتر هنا أو هناك لن يطيل بأعمارهم، أو يمنع عنهم نعمة الموت الذي تناسوه!
بالرّغم من كلّ شيء، كانت تلك الأيّام خزّانًا لذاكرتي البصريّة، أغرف منها ألواني وأشكالي وبعض مواضيعي..
ما أصعب الذكرى وما أقساها، وما أجملها حين تصبح لحظة شوق وحنان وحبّ… وهرب من واقع مرير..
تعليقات: