الحياة الليلية بالجميزة ومارمخايل: الشهقات الأخيرة للمدينة المنكوبة

عتمة وغبار ملوث وضحكات تعلو وتنخفض (مصطفى جمال الدين)
عتمة وغبار ملوث وضحكات تعلو وتنخفض (مصطفى جمال الدين)


تتجلى شهقة مدينة بيروت الأخيرة بجلبة الصيف الاستثنائي الذي أطلّ مفعمًا ببهجته السّاخرة، وبسوريالية الانتعاش الذي أقنع سواد المتفائلين بأمل مدينة موعودة بانبثاقها من الأطلال. أمل يصنعه هواة الليل ورواد السّهر حتّى الضجر، بأغانيهم الحماسية وأقداحهم التّي يعتاش بثمنها غالبية المفقرين لأيام، فيما يتنفس العابرون في شوارعها المعتمة ذرات الموت وذكريات طواها الإعمار والترميم، وغلفاها برداء إسمنتي يطمس جسد الشارع المدمى. أرصفة تتداخل عليها هويات العابرين بضجيج دولارات السّوق السوداء. عتمة وغبار ملوث وضحكات تعلو وتنخفض. وعلى الأرصفة ركام بيوت تراثية منهارة. وهناك أطلال الإهرءات وركامها مختلطًا بركام ذاكرة جماعية مشوهة.


شارعان وظلال النكبة

يحاول الشارعان المنكوبان -الجميزة ومارمخايل- اللذان كانا عصب الجذب السّياحي ما قبل الانهيار، لملمة ما تبقى من بهجتهما المسلوبة، حيث تُعيد المطاعم والحانات ترميم الخراب واستئناف الحياة التّي سُلبت منها بغتةً. رواد المقاهي يعملون نهارًا على حواسيبهم، وليلاً يتراقصون على وقع موسيقى يشتكي منها دوريًا سكان الشارعين المتعبون، والمتفرجون بصمت.

يتدفق يوميًا عشرات السّياح من جنسيات مختلفة إلى الشارعين ومتفرعاتهما، بوجههم/هن الباهتة ونظراتهم المشفقة المستغربة. صوت الموسيقى الصاخبة، اللغات واللهجات المتداخلة، وزحمة السّيارات والمارة، تصمّ الأذان. ويعبق الجوّ برائحة الكحول النفاذة والمأكولات المتنوعة مختلطةً برائحة القمامة والحريق والعفن اللامرئي.

2096 مقهى وملهى ومطعماً في بيروت دمرت جزئيًا أو كليًا، لحظة انفجار 4 آب، وما يتجاوز 200 منها دمرت كليًا في كلا الشارعين. واليوم وبعد سنتين على النكبة، تعود حياة الليل والسهر وقطاع الخدمات تدريجيًا، بجهود القطاع الخاص والمساعدات والمنح التي تدفقت في السنتين الماضيتين لإعمار ما تهدم، في غياب شبه تام للدولة التّي لم تكلف نفسها عبء التعويض، ولو المادي، أو تقديم حوافز أو استثناءات. بل راكمت عجزها وفسادها اللذين أقحما سكان المحلتين خصوصًا وسكان العاصمة المنكوبة عمومًا، في دوامة الموت والتهجير والخيبة.

المحال التّي أُعيد افتتاح بعضها وأُسس شطر آخر من جديد، تلاقي إقبالاً واسعًا من بعض فئات سكان العاصمة، إضافة إلى المغتربين السّياح. وهي تجذب بألوانها الفاقعة وحداثتها أصحاب المداخيل بالفريش دولار، أولئك الذين يحاولون تجاوز الدمار الذي لحق بالمدينة. والرائج أن رواد السهر في الشارعين من العاملين في الجمعيات غير الحكومية والشركات والمغتربين من حملة الجنسيات الأجنبية. وهواة الحياة الليلية هؤلاء يتجاوزون الأسعار الفاحشة أحيانًا بالعملة الوطنية. لذلك ترى بضعة أكشاك منتشرة ما بين المحال المترفة، يقصدها عادةً الساهرون من ذوي الدخل المحدود بالليرة اللبنانية.

وتنتشر على الأرصفة طاولات الساهرين المزدحمين بصورة شبه يومية. أما في نهاية الأسبوع فيضج الشارعان بأصوات الموسيقى الصاخبة المنبعثة من المرابع الليلية. وتزدحم السيارات في صفوف طويلة. وترى يوميًا بعض سائحين يجرون حقائبهم باحثين عن أقرب فندق أو عن شقة مفروشة للإيجار. هذا المشهد الذي لم يره السّكان طيلة عامين، منذ بدأت الأزمة والتظاهرات وصولاً إلى إنفجار 4 آب، وبعدها سنة الإعمار.


سوق عقارات

بين مشهد السّاعة الأولى التّي تلت الانفجار، والمشهد اليوم، فرق شاسع. الدمار الذي كان في كل زاوية يضمحل أمام بهرجة الإعمار والترميم وافتتاح الحانات. البيوت والقصور والكنائس التراثية (الفرنسية والعثمانية) التّي دمرها التفجير، جُددت ورمم ما تدمر منها، وطُليت. وزاد طرديًا طمع المأجرين بالفريش دولار، فباتت أسعار إيجار هذه البيوت خيالية، رغم أنها تحمل في زواياها أتراح النكبة التي يُراد إزاحتها جانبًا بفرح الإعمار. وهذا ما جعل السوق العقاري مزدهرًا بازدياد الطلب على السكن في الشارعين. لا سيما بعد هرب الأهالي، قدامى السكان، من ضجيج الحانات الليلية التي حولت المنطقتة السكنية ناديًا ليليًا ضخمًا.

لطخات الدماء طُليت بدهان أبيض لماع، وكُبِتت صرخات الجرحى بنقرات أدوات البناء. وباتت رائحة العفن المنتشرة في الزوايا، الشاهد الوحيد على النكبة الحية في ذاكرة السّكان. أما الغبار والدخان اللذين يحدثهما انهيار الإهراءات، والشوارع المرصوفة ببلاطات محطمة، وبناية شركة كهرباء لبنان الخرساء المظلمة، فتشكل شواهد زمن الانهيار الكبير المستمر. وهي شواهد تُعيد الأهالي يوميًا إلى لحظة التحول التّي باغتتهم، ووصفوها بأنها أشد وطأة وقسوة من الحرب الأهلية.

هذا هو الفيصل في الحكم الدقيق على شرعية هذه السّلطة، والدليل على إرهابها وفسادها. فالسّكان عايشوا فظائع الحرب الأهلية (منطقتهم كانت قريبة جداً من خطوط التماس بين المنطقتين الشرقية والغربية في بيروت)، من فصول السبت الأسود في السبعينيات، واحتلال الجيش السوري في الثمانينات، وحربي "التحرير" و"الإلغاء" أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، وغيرها الكثير من المصائب التّي حلّت على الأهالي، وجعلتهم لا يجسرون على مغادرة بيوتهم أو إخراج رؤوسهم من الشبابيك. أما السلطة فقد وفرت عليهم أخيرًا عناء الخروج، فقتلتهم في منازلهم ودمرت منطقتهم.


طوايا الذاكرة

بالرغم من كل ما حلّ بهم، تمكن السّكان، بفضل تمسكهم بثقافة الحياة، من اجتراح التغيير. عاد بعضهم إلى بيوتهم وحياتهم وما تبقى من أسرهم، لاستئناف ما توقف عشية الانفجار. واكتملت عملية النهوض من خلال إعادة إعمار ما دمر، عبر المشاريع السّياحية الترفيهية، وإنعاش حياة الليل والسّهر واستقطاب المزيد من السّياح الراغبين بسماع قصة الدمار التّي تلتها "معجزة الإعمار".

لكن العتمة التّي لا تلبث أن تجتاح الشارعين لحظة إقفال آخر الحانات ليلاً. فيعود شريط الخوف الذي يعايشه السّكان كخبز يومهم. تمسك الأهالي بالحياة، وتوقهم الشديد إلى استعادة لحظات ما قبل التفجير، لا يشبهان الإعلانات والدعايات التّي سوقت لها السّلطة في موسم الصيف السياحي هذا العام، وتقول إن اللبناني يتحمل الأهوال والمصائب، طمعًا بدولارات المغتربين والسياح. لا تخفي الحملة الدعائية الصدمة عن ملامح السّكان المتوجسين الخائفين من ما قد يفاجئهم به الواقع في كل لحظة.

قد يبدو من الشطط أن ننكر حقيقة مشهدية السهر والحياة الليلية في الشارعين، والتي انبثقت من أطلال المأساة التّي حلت باللبنانيين. ويبدو من المبالغة الفادحة أيضًا أن نجزم بعودة بيروت إلى سابق عهدها، مدينة للسهر والفرح اللذين لا يطويان ذكرى المأساة وفداحة الأزمة.

كأنما هناك ثقب لامرئي يبتلع الأمل المتبقي بالعودة مجددًا إلى الماضي الجميل. فشبح الموت الذي يسرح في قلب العاصمة، يثبت أن هذا الصيف السّياحي وإعلاناته المفعمة بالدولارات والأغاني والسّهر، لا يطوي الشهقات الأخيرة لمدينة تتخبط في هوة كالحة.

تعليقات: