اجراء شرطة البلدية انتقائي ولم يأتٍ من ضمن خطة أو رؤية متكاملة (جنى الدهيبي)
في خطوة مفاجئة، أقدمت شرطة بلدية طرابلس على إنذار عدد من عربات الخضار التي يشغلها عمال سوريون في ساحة التل ومحيطها، مطالبة بازالتها، تحت طائلة مصادرتها وتسطير محاضر ضبط بحق أصحابها.
وبعد أن كانت ساحة التل تكتظ بعشرات العربات المتنقلة والثابتة على الأرصفة، انخفضت أعدادها إلى الحدود الدنيا في اليومين الماضيين.
المفارقة أن هذه المنطقة المركزية في الشمال، لم تخلُ من أشكال كثيرة من المخالفات والاعتداء على الأرصفة والأملاك العامة، من قبل بعض أصحاب العربات "النافذين" وبعض المحال التجارية وتجمعات السيارات العمومية الذين يمنعون المواطنين من ركن سياراتهم بقوة الأمر الواقع.
في سبيل السياحة؟
عمليًا، يطرح اجراء شرطة البلدية الكثير من التساؤلات، لأنه لم يأت أساسًا ضمن خطة متكاملة لإزالة كل المخالفات والاعتداءات الفاضحة في طرابلس، بل جاء كإجراء شعبوي وانتقائي واستنسابي، وحتى عنصري كونه حصر توجيه الإنذار لأصحاب العربات السوريين فحسب.
والمفارقة أن شرطة البلدية، وضعت هذا الإجراء في إطار مشروع يهدف "إلى الحفاظ على شكل مدينة طرابلس السياحي والإنمائي"، وأن هذه الظاهرة "تؤثر بطريقة غير مباشرة على إصحاب المصالح وعلى اليد العاملة اللبنانية في المدينة".
وتوجهت قيادة الشرطة إلى أبناء طرابلس، داعية إياهم إلى "الوقوف إلى جانب عناصرها ودعمهم لإعادة الوجه الحقيقي لمدينة طرابلس على أن تستمر هذه الحملة، حتى ازالة المخالفات".
طبعًا، لم تحدد شرطة البلدية أشكال الدعم الذي تطلبه من أهالي طرابلس. وإن كان مثلًا دعوة غير مباشرة لمساندتها في إزالة العربات وردع أصحابها السوريين، طالما أن عديد الشرطة البشري واللوجستي ضعيف للغاية.
وفي جولة في ساحة التل ومحيطها، بدت مفاعيل تنفيذ قرار الشرطة انتقائيا واقتصر على أصحاب عربات من دون سواها.
لكن ما يثير العجب ويعطي الإجراء طابعًا سياسيًا بحتًا، هو ربط الشرطة ما أسمته باستعادة "الوجه الحقيقي لمدينة طرابلس" بإزالة هذه المخالفات تحديدًا، في مدينة تغرق بشتى أشكال الفوضى والتلوث والمخالفات والاعتداءات وفرض الخوات والتشبيح على الأملاك العامة البرية والبحرية، من قبل أشخاص لبنانيين ومجموعات مدعومة تلقائيًا من نافذين وسياسيين زعماء في المدينة.
وتفيد معلومات "المدن" أن قرار شرطة البلدية جاء بتوجيه سياسي، وذلك بعد أن رعى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إطلاق حملة "أهلا بهالطلة" في طرابلس بحضور وزير السياحة وليد نصار، حيث ستطلق شركة الصمد للاستثمار السياحي الخاصة عدة أنشطة من ١٥ آب حتى ١٥ أيلول.
فهل بدأت بلدية طرابلس عبر شرطتها، وخلف عذر السياحة، تحذو حذو بلديات أخرى تنوب عن السياسيين بإجراءات عنصرية انتقائية، تحت شعار إزالة المخالفات كأداة للضغط بملف عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم؟
وإذا كان الهدف فعلًا "تحسين مظهر" المدينة، لماذا مثلًا لم تضغط البلدية الغارقة بمشاكلها على شركة "لافاجيت" لحل أزمة أكوام النفايات المرمية في أنحاء طرابلس التي تنبعث منها السموم والروائح الكريهة؟
أين الشرطة من "أبو علي"؟
يدرك كثيرون في طرابلس حجم الأزمة المترتبة جراء الانتشار الكبير لظاهرة العربات والبسطات، التي أصبحت معالجتها بظل الأزمة الاقتصادية الراهنة صعبة للغاية. لكن هذه الظاهرة لم تأت من عبث، ولم يفتعلها السوريون في طرابلس. بل هي مشهد تاريخي، تفاقم في العقدين الأخيرين، أي قبل الحرب السورية (٢٠١١)، بفعل غياب السياسات التنظيمية في المدينة والفساد الذي عاث خرابًا في المشاريع التي رُصدت للمدينة.
وهنا لا بد من التذكير بالمأساة التي لم تعالجها مجالس بلدية طرابلس المتعاقبة منذ العام ٢٠٠٥، بتحويل مشروع "الإرث الثقافي" إلى مشروع "تدمير ثقافي" ممنهج عنوانه سقف جزء من النهر لمدّ مئات البسطات.
حينها، كان من المقرر عبر هذا المشروع، ترميم وتأهيل الأحياء القديمة الاثرية والتاريخية، بقيمة 19 مليون دولار أميركي (لا يعلم أحد كيف صرفت)، وبتمويل من البنك المركزي الاوروبي والوكالة الفرنسية للتنمية، والمديرية العامة الايطالية للتعاون والتنمية وتحت إشراف مجلس الانماء والاعمار، إلى أن أضحى نموذجًا للاعتداء على الأملاك العامة. وهكذا، تحول نهر "أبو علي" إلى جسر "باطون" شاهدٍ على أفشل "مشروع إرث ثقافي" نفذه مجلس الإنماء والإعمار، وأدّى إلى سقف النهر وجعله حاوية نفايات ولتصريف المجاري، ومساحات لعشوائيات البسطات والخيم والفوضى، ويعمل فيها مئات السوريين بالعتالة لصالح أصحاب المتاجر والمصالح اللبنانيين بالمنطقة.
وانطلاقًا من حرص القائمين على مشروع "أهلا بهالطلة" وغيرهم، هل تستطيع شرطة بلدية طرابلس أن تطلق حملة "استعادة وجه مدينة طرابلس" من منطقة نهر أبو علي؟ وهل تستطيع السلطة السياسية، وفي طليعتها الرئيس نجيب ميقاتي الذي سبق أن هدد بترحيل السوريين، أن يحاسب من تسبب بكل هذه الاعتداءات والتشوه التاريخي بمدينته طرابلس؟
تعليقات: