القبور والدفن بالدولار: بلاد الحياة البائسة والموت المجاني

عيش لا تُحتمل كلفته وطقوس دفن باهظة الثمن (المدن)
عيش لا تُحتمل كلفته وطقوس دفن باهظة الثمن (المدن)


في كتابها "أطر الحرب- متى تستحق الحياة الحسرة؟" تعالج جوديث بتلر، المفكرة النسوية البارزة، بأسلوبها البلاغي فكرة انتقائية وتفاضلية: الموت والحياة، في زمن الحروب التّي تكشف تباعًا انغماس المجتمعات المنكوبة في جدلية من تستحق ومن لا تستحق حياتهم الحزن والحسرة عليها.


ثمن القبر

بدأت هذه المقاربة تتجلى تباعًا في المشهد اللبناني اليوم، لا من جهة الحرب التّي تحدثت عنها بتلر في كتابها، بل من جهة رخص الموت وتحوله من قدر محتوم ومراسم تقليدية وحزن، إلى عادة شبه عبثية، تنطوي على تطبيع مع نتيجة حتمية للأزمات المستفحلة. فالمثوى الأخير الذي من المفترض أن يرقد فيه الإنسان أيًّا كان في سلامٍ أبديّ، بات عبئًا لا يحتمله سواد السّكان المنكوبين في لبنان. وفي حين كان المواطن يتمنى الموت ليرتاح من همومه المعيشية، فاليوم بات يخافه بعد أن صار همه أكبر من عبثيته الوجودية: ثمن القبر.

ولشدّ ما هو صعب توصيف عجز المواطن اللبناني المرير إزاء نكباته المتلاحقة، بات الأصعب توصيف خوفه وقلقه المستجد من موته لدواعٍ مادية بحتة، واسترخاصه كرامته الإنسانية، وقلقه على مصير جثته، وأعباء وتكاليف دفنه على أهله التّي صارت بالفريش دولار، بدءًا من القبر وصولًا للتبغ والقهوة. وإن كان اللبناني يتخبط طيلة حياته في دوامة من الأزمات، وما يلبث أن تنتهي معاناته الدنيوية، يباغته شبح السّوق السّوداء وغلاء أسعار قبره.


موت مجاني

مستساغٌ بات خبر الموت في لبنان المأزوم. ففي خضم النكبات، ومن دون أي مجهود، تجد الموت المجاني والمفاجئ، ندًا شرسًا يتربص بك في كل زاوية: من مافيات مسلّحة متفلتة قد تزهق روحك، غير عابئة بعدالة، أو أن تصاب بكوفيد ولا تجد مستشفى يستقبلك عند حصول مضاعفات، أو أن تُنتشل جثتك من تحت الركام نتيجة انفجار ما. أو حتّى أن تموت ذليلًا على أبواب مستشفى خاص، لأنك لا تملك رسوم الطوارئ. أو تفقد دواء السّرطان الذي سببه لك التلوث المستفحل من حولك. أو يفتك بجسمك الغذاء الفاسد على أنواعه...

ويبقى الموت صديقك الوحيد في هذا البلد المنكوب، الذي يراكم الأرقام كهواية عبثية. فحصيلة الوفيات بارتفاع مطرد، والمدافن تغص بسكانها الجدد، مهملةً ومغبرة.

مع أرقام الوفيات، أرقام تكاليف الدفن والعزاء في ارتفاع مطرد أيضًا. من أسعار النعوش والجوارير والقبور، مرورًا بسيارة النقل وحجز صالات التعازي وأجور العمال والزهور والطعام، وصولًا لرخامة القبر والمناديل. وهي متأرجحة على إيقاع دولار السّوق السّوداء، والفساد المستشري في كافة مفاصل الدولة. قد طال شركات الدفن والجمعيات العائلية وإدارات المدافن. الأمر الذي جعل مراسم الدفن والعزاء رفاهية، وعبئًا لا بد منه على المفقرين لإكرام موتاهم، فيضطر بعضهم إلى الاستدانة لإتمام المراسم كاملةً. وعمد البعض الآخرعلى تقليص وإهمال بعض العادات المكلفة، كإستقبال المعزين بعد الدفن، وتقديم الطعام، واستبدال صالات العزاء بصالونات بيوتهم. وقد وصل البعض حتى إلى دفن موتاهم بلا بلاطة أو شاهدة، مكتفين بتثبيت حجر اسمنتي أو خشبة للاستدلال عليهم، حسبما أشارت أحد مصادر "المدن" المتابعة.


تكاليف الدفن الباهظة

وإن كانت لوازم الدفن وعاداته وتكاليفه تتنوع وتتفاوت من طائفة إلى أخرى ومن منطقة إلى أخرى، فالجميع يعاني إجمالًا من ارتفاع أسعار الموت وبالدولار. وإن كانت تكاليف الدفن منخفضة نسبيًا لدى طائفة، مقارنة بالطوائف الأخرى، فإن أغلب القرى والبلدات المسلمة تعتمد أراضي الوقف لدفن موتاها، وتُسدد أثمان قبورها باشتراك سنوي. غير أن حفر القبور ووضع الشاهدة فوقها، وغسل وتكفين المتوفي، مرتفعة. فكلفة حفر القبر تتراوح بين مئة و300 دولار. ويتراوح سعر الرخامة والحجارة بين 250- 800 دولار. والأكفان تصل كلفتها إلى 200 مليون ليرة لبنانية.

أما عند الطائفة الشعية فتكاليف الدفن تحتسب بالدولار، وتتضاعف بعدد الزيارات إلى الأماكن المقدسة في إيران والعراق، فضلًا عن نوع القماش. يُذكر أن سعر القبر في بيروت وضواحيها بات يتجاوزعتبة 5 آلاف دولار، إن استطاع أقارب المتوفي تأمينه أو شراءه مسبقًا. والمدافن المتخمة بالقبور والتّي تتوسع طرديًا، تشغل حيزًا ضخمًا وسط الأحياء الشعبية. وتختلف كلفة الدفن بين القرى وبيروت. وعادةً ما تكون أرخص في الريف، حيث القبور مجانية أو بأسعار رخيصة، وحفرها والعزاء واجب اجتماعي يتعاون عليه سكان القرية جميعًا.

أما عند الطوائف المسيحية والطائفة الدرزية، فأسعار التوابيت يتراوح بين 300 دولار وما يتجاوز 5 آلاف دولار على أقل تقدير. وهو يزداد حسب نوعية الخشب والنقوش والمعادن المثبتة عليه، ناهيك عن تكلفة نقل الراحل في سيارة خاصة، باتت كلفتها تترواح بين مليونين وخمسة ملايين ليرة. وكذلك حجز الصالونات الكنسية وحجز الكهنة وشراء الزهور وإقامة المآدب. وهذا فضلًا عن أثمان المدافن بغرفها التّي عادةً ما تتسع لحوالى خمسة أشخاص، والجوارير التّي تحتمل ثلاث جثامين، وهي باتت غالية، فضلًا عن صعوبة شرائها للذين ليس لهم مدافن عائلية.

هذا الواقع جعل فئة واسعة من السّكان يخشون موت أحد الأقارب، بحيث أن تكاليف دفنه وعزائه باتت عبئًا ماليًا ثقيلًا، ما اضطر شريحة واسعة منهم إلى استخدام القبور المستعملة أو الموقتة. فأبناء الطوائف الإسلامية يعمد بعضهم إلى دفن عدد من أفراد العائلة في القبر نفسه لتوفير كلفة شراء قبر. والطوائف المسيحية تستخدم قبورًا موقتة. أي بعد سنوات خمس يعمدون إلى نقل العظام إلى مدفن شخص آخر، بتكلفة قليلة.


استجداء قبور السّوريين

المعاناة التّي ألمت بالأحياء من اللبنانيين، والأرض التّي باتت تضيق بالموتى بسبب تضاؤل مساحات المقابر، تتضاعف على غيرهم من المقيمين، وخصوصًا اللاجئين السّوريين الذين باتت الأرض اللبنانية تضيق بأمواتهم، كما تضيق بأحيائهم. وصار الحق الطبيعي بالدفن حكرًا على طبقة من اللبنانيين. فموت أحد اللاجئين يسبب أزمة لأهله وأقاربه، وبالتالي يضطرهم إلى اجتراح حلول، وأحيانًا استجداء المراجع الدينية والسياسية والبلدية لدفنه.

ورغم محاولات مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في التدخل لحلحلة هذه المشكلة من خلال تأمين مساحات متفرقة، في منطقة بعلبك مثلًا، بالتعاون مع مفتي المنطقة، كما في راشيا وقب إلياس، لكن هذه المساحات ليست بكافية ولا تلبي الحاجة. وخصوصًا أنها محصورة لعدد قليل جدًا من اللاجئين، الذين تجاوزت أعدادهم عتبة المليوني مقيم.


غياب المدافن اللادينية

على أي حال، إن هذه الأزمة خلفت تصدعًا في العادات والمراسم الدينية والثقافية والشعبية للموت. وهنا تجدر الإشارة إلى الغياب التام لأي مدافن مدنية في لبنان. أي مقبرة يدفن أو يحرق فيها من شاء، بعيدًا عن خلفيته الدينية. وهذا الأمر يحرم فئات من شعائر دفن لائق. فيدفنون موتاهم في مقابر الغرباء المرقمة بلا أسماء، كعاملات الجنس مثلًا، أو المهاجرين/ات، والعابرين/ات ومجتمع الميم.

هذه المقابر تجرد الراحل من أدنى حقوقه الأولية: الدفن الكريم. والحاجة اليوم ملّحة لمدافن مدنية لمن يشاء أن يدفن بعيدًا عن سطوة محكمته الشرعية/الروحية، فضلًا عن نمطية المراسم وغيرها.


موت أغلى من الحياة

بات الموت همًا من هموم هذه الحياة الكالحة في لبنان. فأهل هذا البلد المنكوب يعون مسبقًا حقيقة الخوف حتّى على مصير جثثهم، بعدما لف البؤس حياتهم. بات اللبنانيون اليوم غرباء حتّى في بيوتهم ومقابرهم. يدفنون بصمت وعلى عجل، على نحو دفن غير المرغوب بحياتهم. أرواح تُعيد صدى محادل الفساد، وهي مجردة من حقها في أن تموت بسلام.

فالموت بسلام بات حكرًا على المقتدرين. وموت اللبناني اليوم رخيص وثمين، كحياته الرخيصة فقط.

تعليقات: