محمود درويش المشغول بالموت يعود إلى بلاده في كفن

حسن احمد عبدالله
حسن احمد عبدالله


تغلب على خيبات العرب بالقصيدة وارخ لفلسطين في 24 ديوانا..

السؤال :حين فتح الجراح للمرة الاولى قلب محمود درويش ليجري العملية الجراحية الاولى في هذا القلب المتعب من الترحال ماذا وجد؟

هل وجد كما كتب الشاعر الكبير في قصيدته "القتيل 48" قنديل ورد.. و قمر؟ لم يكن درويش ملقى على حجر كما في القصيدة، بل على طاولة غرفة العمليات في هيوستن الاميركية، وليس في رام الله او حيفا الفلسطينية، هذا الشاعر الذي انشغل بالموت كثيرا ومنذ بدايات القصيدة الطرية كزهر اللوز الذي كان رفيقه الدائم، وهذا الولد الثاني في عائلة مؤلفة من خمسة ابناء وثلاث بنات كان مشاكسا منذ البدء، لذلك حين كتب" عندما شب أخوه... و مضى يبحث عن شغل بأسواق المدينة "، كان يكتب سيرته الاولى، تلك السيرة التي ستتلون بالاحمر والابيض والاخضر كثيرا، اذ هو الولد المهموم ببلده الذي"استغرب لماذا لكل الناس اوطانهم وانا وطني كله في السجن"، حين قال ذلك في النصف الاول من سبعينات القرن الماضي، كان منفاه لا يزال طازجا كما خبز امه الذي يحن اليه.

في واحدة من الامسيات التي نظمت له في بيروت السبعينات في قاعة جمال عبدالناصر في جامعة بيروت العربية طالبه الحضور بقراءة قصيدة "هوية" رفض... الح الجمهور بالطلب ازداد رفضا، وفي النهاية قال :" هذه القصيدة كتبت في فلسطين وتليت امام السجان الاسرائيلي في فلسطين وهي بلا معنى اذا تليت خارج فلسطين"، كانت قصيدة "هوية" التعويذة التي يرددها كل الذين اخذتهم قضية فلسطين الى اخر مطارح الحماسة، كانت في الستينات والسبعينات النشيد الذي يتلى دائما، لكنها لم تكن القصيدة اليتيمة لدرويش المنشغل بالموت دائما، تكاد كل قصائده تطل على الموت بشكل او اخر، اذ هو كتب" ماذا جنينا نحن يا أماه؟

حتى نموت مرتين

فمرة نموت في الحياة

ومرة نموت عند الموت!

هل تعلمين ما الذي يملأني بكاء؟

هبي مرضت ليلة... وهد جسمي الداء!

هل يذكر المساء

مهاجرا أتى هنا... و لم يعد إلى الوطن؟"

محمود درويش المولود في البروة الفلسطينية في العام 1942 حين بدأ الكتابة كان طري العود تماما كما النكبة التي كبر في ثنايا مأساتها فكانت تذكره دائما ان عليه رفع الصوت عاليا، لم يكن يدرك ان قصيدته توازي البندقية التي تطلق الرصاص على صدر المحتل، ربما لم يكن محمود درويش في تلك الاثناء يعرف كيف يفكك الالغاز التي جعلته يبحث عن الوطن في كل الاوطان.

لم تبهره المدن الكبيرة اكثر مما بهرته حيفا والقرى الفلسطينية ولذلك لم يأبه كثيرا لجواز السفر الاسرائيلي الذي حمله لفترة من الزمن، اذ كان الجواز تصريح عبور قصيدته بصوته الى العالم، الى الناس، ولذلك لم تحتمله اسرائيل كثيرا، اذ عجزت عن محاصرة القصيدة فابعدته الى الخارج، نزعت عنه جواز السفر الذي لم يكن يغريه كثيرا، وكأن هذا الجواز كان القيد الذي يلاحقه في كل مكان، كان الزنزانة المتنقلة معه اينما ذهب، لذلك حين ابعد وكان في الثلاثين من عمره حمل معه فلسطينه وترك جواز السفر الاسرائيلي على طاولة النسيان، لكنه حمل ريتا التي طعنته حين رأها يوما على حاجز للجيش الاسرائيلي "بين ريتا وعيوني بندقية"، حتى في الحب كان الاحتلال متربصا في ريتا تلك التي اصبحت قصيدة فقط.

هل احب محمود درويش؟ في كل دواوينه التي بلغت نحو 24 ديوانا كانت المرأة الحبيبة تظهر في اكثر من صورة، لكن دائما كانت العجوز المنتظرة ان يشق ستار الحزن الشاب الذي غاب ويعود الى البيت حتى يشرب القهوة من يديها.

اصدر محمود درويش ديوانه الاول في العام 1960 وكان بعنوان"عصافير بلا اجنحة" وفي العام 1964 اصدر في حيفا "اوراق الزيتون" ومن ثم "عاشق من فلسطين" (1966) و "يوميات جرح فلسطيني" و"اخر الليل" (1967) اي في العام الذي كانت فيه "النكسة" المحطة الكارثية الثانية في التاريخ الفلسطيني بعد النكبة، يومذاك انكسر العرب لكن قصيدة محمود درويش صارت اصلب عودا، اذ بعد ذلك باربعة اعوام خرج درويش بعدد من الدواوين وكأنه يقول ليس لي في الصمت، اخرج شحنة من الغضب على كل شيء، يومها في العام 1971 كانت "حبيبتي تنهض من نومها " نافذة طل منها على "الكتابة على ضوء البندقية"، وكانت هذه الدواوين صدرت دفعة واحدة عن "دار العودة" في مجلد ذاك العام.

لم يكن درويش بعيدا من العمل السياسي اذ هو انتسب الى الحزب الشيوعي الفلسطيني في العام 1961، ومنذ ذلك الوقت كانت الملاحقة الامنية رفيقته الدائمة، لايفلت منها الا حين يتعب السجان الاسرائيلي، وطوال اكثر من 13 عاما كان الشاب محمود درويش نازحا في فلسطين للمرة الثانية قبل ان يصبح منفيا في العام 1972، حين عجز الاحتلال عن اسكات صوته الصادح ب¯"أكلنا الطعام المعلب عشرين عاما

لبسنا ثياب الفصول،

استمعنا إلى الأغنيات الجديدة،

جيدة الصنع،

من ثكنات الجنود

تزوَّج أولادنا بأميرات منفى

وغيَّرن أسماءهم،

وتركنا مصائرنا لهواة الخسائر

في السينما.

وقرأنا على الرمل آثارنا

لم نكن غامضين ولا واضحين

كصورة فجر كثيرِ التثاؤبِ".

كما سبق واسلفنا كان الموت دائم الحضور في قصائد درويش، ومنذ البداية، وكأنه كان يعرف ان المنازلات بينهما ستكون كثيرة فكتب في قصيدة "الجسر" عن الموت المؤجل

" قلت: أما زال يجرحك الجرح، يا صاحبي؟

قال لي: لا أحسّ بشيء

فقد حوَّلت فكرتي... جسدي دفترا للبراهين،

لا شيء يثبت أَني أنا

غَيْر موت صريح على الجسر،

أَرنو إلى وردة في البعيد

فيشتعل الجمر

أرنو إلى مسقط الرأس، خلف البعيد

فيتسع القبر

قلت: تمهل ولا تَمتِ الآن. إنَّ الحياةَ

على الجسر ممكنة. والمجاز فسيح المدى

هاهنا بَرْزَخٌ بين دنيا وآخرةٍ

بين منفى وأرض مجاورة...

قال لي، والصقور تحلق من فوقنا:

خذِ اسمي رفيقا وحدِّثه عني

وعش أنت حتى يعود بك الجسر

حياً غدا

لا تقل: إنه مات، أو عاش

قرب الحياة سدى!"

ذكرت مصادر السلطة الفلسطينية ان اتصالات تجرى لنقل جثمان محمود درويش من الولايات المتحدة الاميركية الى الاردن ومن ثم نقله الى فلسطين ليدفن فيها، وهذا الجثمان سيمر من على جسر "اللنبي" الذي يربط بين الاراضي الفلسطينية المحتلة والاردن، اي ان الجسر الذي تحدث عنه درويش رمزيا ها هو اليوم يعبره ميتا، واذ قال في قصيدته"عش حتى يعود بك الجسر حيا غدا"، هو عبره حيا لزيارة امه في التسعينات من القرن الماضي، وكان يمشي على قدميه، ويحمل غصة في القلب الخاضع انذاك لمبضع الجراح، لكنه يعبره الان "لا تقل انه مات" في قصيدة جديدة تكتبها الايام عنه، تماما كما كتبت قصائد العمر لعدد من الشعراء بعد الرحيل.

يعود درويش من هيوستن الاميركية صامتا ملفوفا بكفن بعد ان مات تحت مبضع الجراح الذي حاول كثيرا ان يهدىء القلب المشاكس الذي اعياه الترحال والحب والشعر، ثلاث عمليات في قلب "تعربش" على شجر الستين من العمر، وكأن الرحيل في اغسطس كان اشارة الى مدى الم "النكسة" في العام 1967، اذ هو يغيب عن 67 عاما، هل ارادها درويش الذي كما قال طبيبه عبد العزيز الشيباني "انه قال لا اريد ان اعيش مع اعاقة في جسدي" في اشارة الى الجلطات التي يمكن ان تحدث جراء العملية الجراحية، حتى لا تكون "نكسة" اخرى في تاريخه، فاراد ان يغلق باب "نكسة" 1967 على العمر في السابعة والستين؟

لا يدري احد بماذا كان يحلم محمود درويش في لحظاته الاخيرة وهو على سرير غرفة العناية الفائقة في المستشفى الاميركي، هل كان يفكر بقصيدة جديدة؟ او...!

hasana961@yahoo. com

تعليقات: