هدى صادق: مخضبين بالاشتياق للخيام


عادوا من الخيام أولئك المغتربين يحملون في زوادتهم

حفنة ذكريات وكمشات حنين ونكهات من بقايا

اشتياق غص بها شهيق العنب وزفير التين


عاد من الخيام أولئك المغتربين وفي حقائبهم إرتمت لحظاتهم الحلوة المطوية فوق بعضها البعض كأوراق السنين

ورقة بيضاء لم يكتب عليها القدر من شيء وورقة خربشت عليها الطبيعة برسومات تناوبت على اجتياحها أقلام التلوين

ففي الخيام كان الصيف رغم حرارته ملبدا بالعطر وممتزجا برائحة الزعتر الملتصقة بالطين

في الخيام تشرق الشمس في القلب وكأنها نبض يسرح من شماله مرورا باليمين

لينهض ريق الصباح من شغب الدراق المتكيء على كتف اليقطين

فصيف الخيام لا يعرف النوم ولا يروقه أخذ قيلولة إلا على وسائد العاشقين

ولا يشتهي الكسل نشطا متحمسا يعربش بنعاسه على نوافذ الليل ليغطى مع النجوم أحلام الياسمين

الصيف في الخيام يشبه احتراق البخور على جمرات

مشتعلة بدخان مغرم بالأكسجين

ليبدأ النور بلملمة خطوات البشر وأسماء من تركوا بيوتهم لبضعة شهور أو سنين

في الخيام لا يوجد صيف فارغ فكل الأماكن يمتطي زواياها ظل خطوات المسافرين

هناك حيث يغفو السكر الناعم فوق حبات التمر على صواني الزائرين

وتتثاءب رائحة البُن وهي تطوف حول حكايا الساهرين

بينما ينكسر صمت الليل بطرطقة حبات البوشار المتزاحمة للخروج الى ثرثرة المراهقين

ليأتي من البعيد صدى صوت الزيز وهو يودع برنينه ملامح المغادرين

حتى يرتمي الشفق في حضن الليل عابرا من الجنوب الى جبل عامل الى بيروت ملوحا باشتياق لتلك القلوب التى تنتظر صيفا جديدا لتسكب الجلاب على قشعريرة الثلج في كؤوس العائدين

وحين تشرق الشمس وتفور قهوة الصباح تشهق رغوتها لطرطقة الفناجين

فتنهض روح الفستق من سباتها لتخلع قشرتها وتأخذ قيلولة على صدر النمورة المشبعة بماء الزهر المنتشى بقطره كما المدمنين

فكم من عائد من الخيام حمل معه جواز سفره وهويته وملابسه وهدايا أحبته وترك جزء من نفسه ليقضي مع الإشتياق ما تبقى من إجازات العمر ولو لحين

وكم من بيت يشكو فراق ساكنيه لفصل شتاء قارص يتدفأ على حطب الذكريات حين تتغرغر جدرانه بريق أصوات الغائبين

وكم من صورة التُقطت هناك ولا زالت ملامح أصحابها

تمر على عتبات البيوت لتسأل عن حجوزات قريبة لاستراحة المتعبين

ففي الخيام يُمحى الصيف من رزنامة الأيام لكنه يبقى

مشرقا في قلوب العابرين

يحمل باقات ورد ويقف على اعمدة الإنارة ليراقب بحزن حقائب السفر الممتلئة بالأنين

في الخيام يغلق المطر نوافذ الزائرين ويبدأ الثلج بافتعال شجار مع النسيان كى لا يُذيب ما ادخرته الطبيعة من وجوه الضاحكين

هنا ابتسامة شيدت بيتا وهنا ابتسامة اخترقت عتمة وهنا عناق لازال دفئه يُجبر بالحب عظام المسنين

وهنا وهناك الكثير من الاثار التى لازالت على ارصفة الخيام شاردة ليحضر من غاب عنها فيزهر الموت حياة وتصحو من غيبوبتها أشلاء الياسمين

ويبدأ النور بخياطة رسائل حب من ورق خريف متعب خارت قواه وهو يحسب كم من ورقة ستسقط حتى يعودوا مرة اخرى المغتربين

لتستمر الارض بالدوران باحثة عن صيف أخر في الخيام

صيف متبل بضجيج هادىء يغير مذاق الصامتين

صيف يوقظ التراب وافران الخبز وبائعى الحلوى فرحا بمن سيعودون الى الخيام بالاشتياق مخضبين...


* الشاعرة هدى صادق

تعليقات: