سفيرة عبد الناصر.. الوجه السياسي لأم كلثوم

أم كلثوم وجمال عبد الناصر
أم كلثوم وجمال عبد الناصر


من شرفة منزلها المطل على نيل الزمالك، شاهدت أم كلثوم يوم 7 يونيو/ حزيران 1967 فلول الجيش المصري العائدة إلى ميادين وشوارع القاهرة، بهيئة مغايرة تماما لتلك التي سبق وأن رأتهم عليها قبل أيام، بالتحديد في صبيحة اليوم التالي لقرار التعبئة العامة 15 مايو 1967 حيث ظهر الجيش وقتها قوياً وقادراً على المواجهة. لذا لم تكن مشاهد خيبة الجنود مفهومة خصوصاً وأن في خلفيتها بيانات عن خسائر فادحة في صفوف العدو الإسرائيلي واقتراب المقاتلين من دخول تل أبيب. لكن عدم الفهم أو بالأحرى عدم التصديق لم يدم طويلاً، ففي السابعة من مساء الجمعة 9 يونيو 1967 أطلّ عبد الناصر على الشاشة مقراً بالهزيمة ومتحملا للمسؤولية.

في اللحظة التي أنهى فيها عبد الناصر خطابه، انسحبت أم كلثوم من جلستها العائلية باكية، وانزوت في "بدروم" فيلتها، وهو طقس يعرفه المقربون منها، كانت تحتجز نفسها هناك مع كل أزمة أو كارثة كبرى تمرّ بها. تغلق كل الأبواب، وتطفئ الأنوار، وتربط رأسها بمنديل، ولا تتحدّث مع أحد. لكن الأزمة هذه المرة لم تكن عادية، انهار القائد وتصدّعت أحلامه التي طالما غنّت من أجلها. كانت نقطة تحوّل كبرى في عمرها وعمر الوطن بالكامل.

بعد أيام قضتها أم كلثوم في عزلتها، جمعت شتات نفسها، وتوصلّت إلى أن هزيمة الروح ربما تكون أكثر خطورة من الهزيمة العسكرية، وأن خسارة جولة لا تعني بالضرورة خسارة المعركة بالكامل، كانت تعرف أنها أكبر بكثير من مجرّد مطربة وأنّ لها بالتأكيد دور في الأيام الحاسمة القادمة "رأيت في صوتي رغبة في الانطلاق، وأصبح غنائي مجندا لهدف عظيم قادم: تحويل الهزيمة إلى انتصار والثأر من النكسة". وبعد أيام قليلة دشنتْ أم كلثوم حملتها لدعم المجهود الحربي، وبدأتها فعليا يوم 20 يونيو 1967 عندما حولتْ شيكا بمبلغ 20 ألف جنيه إسترليني إلى خزانة الدولة المصرية إيذاناً برحلة طويلة استمرت حتى سبتمبر 1972 قبل شهور قليلة من رد الاعتبار وتحقيق الانتصار.


سنوات فاصلة

رحلة شاقة وطويلة تتبّع الكاتب والباحث، كريم جمال تفاصيلها الدقيقة وقدمها مجمعة لأول مرة في كتابة "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" الذي صدر مؤخرا عن "تنمية". الكتاب الذي جاوزت عدد صفحاته 600 صفحة يبتعد عن الكتابة التاريخية الأكاديمية الجافة إلى رحابة التعبير الروائي الحكائي السلس الجذاب ليروي مسيرة جاوزت الخمس سنوات من عمر أم كلثوم، كانت سنوات فاصلة من عمر مصر في الوقت نفسه أيضاً، انتهت بالنصر القومي وبتحوّل أم كلثوم إلى "رمز قومي مقدّس" في المخيلة الشعبية المصرية والعربية، بعد أن قدّمتْ قرابة الثلاثة ملايين جنيه من أجل المعركة، وضخت في الخزانة المصرية ما يزيد على نصف مليون جنيه بالعملة الصعبة هي حصيلة حفلاتها الخارجية في: باريس، والكويت، والسودان، ولبنان، وتونس، والمغرب، وليبيا، والإمارات، كما استطاعت من خلال "هيئة التجمع الوطني للمرأة المصرية"، تنشيط حركة جمع سبائك الذهب لدعم المجهود الحربي، وتوفير فرص عمل وحياة كريمة للمهجرين من مدن القناة.

يقدّم الكتاب تفاصيل كل حفل من حفلات أم كلثوم لدعم المجهود الحربي؛ الظروف والملابسات التي صاحبته، كيف تم استقبالها وماذا قالت وغنّت وكيف تفاعل معها الجمهور، من صاحبها في رحلاتها ومن قابلت وماذا ارتدت، والحصيلة النهائية التي قدمتها للدولة بعد كل حفل وكل رحلة. واللافت أنها كانت قد قاربت السبعين في هذا التوقيت، وكان هذا المجهود في هذه السن بمثابة عمل خارج عن المألوف وخارق للطبيعة، وهو ما عبّر عنه الكاتب محمود عوض الذي لازمها في سنواتها الأخيرة، فقال: "تعود أم كلثوم شابه من جديد، في السن التي تتدهور فيها الصحة، وينكمش العقل، وتضعف الرؤية، وتتثاقل الخطوات، بدأت أم كلثوم تسرع خطواتها إلى هدف جديد. في السن التي يتحول فيها الماضي إلى حاضر، السن التي يبدأ فيها الإنسان يجتر ماضيه، يبدأ في الحياة على سمعة ماضيه، بدأت أم كلثوم تعيش على سمعة حاضرها، وسمعة مستقبلها".


الفن والسياسة

من المهم فهم السياق العام الذي تحرّكت خلاله أم كلثوم لتتمكّن في النهاية من تحقيق هذا كله. حيث بدأ المؤلف كتابه بالتأكيد على أنّ أم كلثوم لم تنفصل أبداً عن الواقع السياسي في الجمهورية الوليدة، وأنها لم تقف بعيداً عن المتغيرات الحادّة التي لحقت بالمجتمع خلال ثورة 1952 وبعدها، ساعدها في ذلك ادراكها، وإيمانها بأنّ الفن والسياسة توأمان كما قالت لمحمد حسنين هيكل في حوارهما الشهير الذي نشرته "آخر ساعة" في ديسمبر 1967. يقول المؤلف إنّ أم كلثوم استطاعت خلال سنوات الثورة الأولى تدعيم علاقاتها برجال المرحلة الجديدة، وتجاوز أزمة كونها مطربة العهد البائد وصاحبة العصمة السابقة، إلى تصدير صورة جديدة عن نفسها كسيدة مصر الأولى، وصوت ثورتها ورمزاً لقوميتها ووحدتها العربية. مشيراً إلى الجدلية التاريخية الخاصة بعلاقة الفن بالسلطة واستخدام النظم السياسية باختلاف توجهاتها للقوة الناعمة في ترسيخ أدوات الدولة وتدعيم أفكارها الأيديولوجية، ليقول بشكل مباشر إن أم كلثوم قدمت ربما لأول مرة الصيغة العكسية لسعي الفنان للاحتماء بالسلطة واستغلالها، أي حاجة السلطة نفسها إلى الفنان.

وإن كانت العلاقة بين أم كلثوم وعبد الناصر قد تجاوزت تماما تلك الجدلية، إلى دائرة إنسانية أرحب، حيث توثقت العلاقات العائلية بينهما، وصارت أم كلثوم وجها مألوفاً في منزل الزعيم، وتوطدت العلاقة بينها وبين زوجته تحية عبد الناصر، إلا أن المؤلف يعود ليؤكد على أن هذا لا ينفي أن عبد الناصر كان يرى في أم كلثوم "ركنا أساسيا في تدعيم مشروعه القومي العربي، وسلاحاً سريا خطيراً في توصيل أفكاره وتكثيف حضور أهدافه في الوعي العربي".


مناسبة وطنية

وبطبيعة الحال لم يكن هذا كله ليغيب عن المتابعة الصحفية في العالم، فخلال زيارتها لباريس مثلا كتبت "لو موند" تحقيقاً موسعاً عن أم كلثوم أشارت خلاله صراحة إلى دورها السياسي وقالت إن سلطتها لا نظير لها، وأنّها يمكن أن تنافس سلطة الدولة نفسها، لكنها أبرزت في الوقت نفسه أن "أم كلثوم لم تصطدم قط مع نظام الحكم القائم". الصورة التي صدرتها الصحافة الفرنسية عملت على ترسيخ أم كلثوم كشخصية سياسية وليست أسطورة فنية فقط، وجعلت الفرنسيين ينتظرون حدثاً سياسياً وليس مجرد حفلات فنّية، خصوصاً بعد الضوء الكبير الذي تركّز على الصراع العربي الإسرائيلي خلال تلك الفترة، فالأول مرة يُسمع صوت الطرف الآخر للمعركة، بعدما سيطرت الدعاية الصهيونية وحدها على الوعي الفرنسي، وهو ما عزز الرأي السائد باعتبار أم كلثوم "سفير متجول للرئيس عبد الناصر" كما قال جون ميشيل بوريس نائب مدير مسرح "الأولمبيا" الذي استضاف أم كلثوم في ذلك الوقت. حفل "الأولمبيا" أيضا شهد ما يؤكد الطبيعة السياسية لدور أم كلثوم عمليا حيث طلب كوكاتريكس مدير المسرح تخفيف المقدمة الحماسية لجلال معوض التي قال فيها: "اليوم تشدو كوكب الشرق في عاصمة النور باريس، وغدا بإذن الله تشدو في القدس المحررة"، على اعتبار أنه حفل فنى وليس مناسبة وطنية، وعندما وصل الأمر إلى أم كلثوم، قالت للكاتب محمد سلماوي الذي كان يتولى الترجمة والذي ينقل عنه كريم جمال تفاصيل الواقعة "قل له (تقصد كوكاتريكس) بل نحن في مناسبة وطنية، وإني جئت إلى فرنسا من أجل المساهمة في المجهود الحربي لبلادي، وإذا كان أسلوبنا لا يروق له فليعتبر اتفاقنا ملغي" ولم تكن تهدد فقط بل التفت إلى الموسيقيين وقالت "لموا الآلات يا ولاد" لكنها تراجعت بعد اعتذار كوكاتريكس وتوسلاته المتعددة وقدمت وصلتها بالمقدمة الحماسية نفسها.

الزيارة الأولى لأم كلثوم بعد عودتها من باريس كانت لمنزل جمال عبد الناصر حيث أقيمت لها مأدبة عشاء احتفالا بنجاحها، وعندما سألها عبد الناصر إن كان أعضاء السفارة المصرية قد قاموا بالواجب تجاهها، قالت إن السفير عبد المنعم النجار لم يأت لاستقبالها في المطار وأوفد إليها المستشار الثقافي للسفارة، وبعد أسابيع قليلة نُقل السفير النجار إلى الإدارة الثقافية للخارجية في القاهرة "عقابا له على خطئه المهني هذا!". وحسب الرواية التي ينقلها المؤلف عن الدكتور على السمان فإن عبد الناصر لم يغضب من ذلك السفير تحديدا عندما أهمل إرسال برقية له مثل غيره من السفراء يطلب منه عدم التنحي بعد النكسة، لكنه غضب لعدم تقديره لأم كلثوم "خصوصاً وأن تلك الزيارة قد جاءت في سياق مهمة وطنية نبيلة"، فحسب رؤية المؤلف كانت السلطة السياسية تعتبر ما تقوم به أم كلثوم جزءاً من المعركة، وأن غاية رحلاتها الخارجية لدعم المجهود الحربي ليست فقط جمع الأموال من أجل تخطي العدوان، بل إن جولاتها الخارجية تسوق القضية المصرية في المحافل الدولية، وتوثق العلاقات العربية وتدعمها، فكان غناؤها في تلك البلاد محاولة لإزالة ملامح الفرقة بين بعض الشعوب العربية ومصر، وتأكدت الفكرة رسميا بعد ذلك حين قرر عبد الناصر منح أم كلثوم جواز سفر ديبلوماسي تسهيلا لمهمتها، لتعامل معاملة السفراء داخل مصر وخارجها، وهي سابقة ربما لم تتكرر في تاريخ الفن المصري.


الأفيون الشعبي!

الاقتراب من السلطة إلى هذا الحد كان له تبعاته السلبية في الوقت نفسه أيضا، حيث جعلها في مرمي نيران التيارات المناهضة للنظام سواء داخل مصر أو خارجها، بل إنها تلقت النيران بديلاً عن السلطة في بعض الأحيان، "فمن لم يستطع هجاء عبد الناصر هجا أم كلثوم" كما يقول المؤلف، حيث كتبت بعض الأقلام في الداخل والخارج مقالات تقلل من قيمة صوتها، وتصورها على أنها مطربة تصلح للقرن التاسع عشر، وأنها عرقلت مسيرة المسرح الغنائي، وجمدت الغناء العربي، ووصل الأمر إلى حد اتهامها بتخدير الشعوب العربية، وتقديمها على أنها تمثل "الأفيون الشعبي" الذي تتعاطاه الشعوب العربية مما أدى إلى الهزيمة! وربما تأكدت تلك المسألة بعد وفاة عبد الناصر، حيث يرصد الكتاب محاولات إقصاء أم كلثوم عن المشهد الفني والاجتماعي والسياسي، خصوصا مع تساقط مراكز القوى السياسية المحسوبة على الناصرية ومع تأكد رجال العهد الجديد من أن "أم كلثوم ما هي إلا المعادل الأنثوي لعبد الناصر بشعبيته العربية الطاغية وحضوره الكاريزمي"!




تعليقات: