لا يوجد ما يبشّر بالخير على مستوى مسار التعافي المالي (علي علوش)
مع تجاوز سعر صرف الدولار حدود 34 ألف ليرة في السوق الموازية، عند أولى ساعات صباح اليوم الإثنين، بدا من الواضح أن الضغوط النقديّة على قيمة الليرة تسارعت، لتبشّر بأسبوع عصيب على المستوى النقدي. فما يمكن وصفه بالارتطام النقدي الأصعب منذ بداية الأزمة، بات قاب قوسين أو أدنى، نتيجة عوامل عدّة تقاطعت في أواخر موسم الاصطياف. لكن في النتيجة، يمكن القول أنّ معظم هذه العوامل نتجت عن قرارات متعمّدة تم اتخاذها عن سابق إصرار وتصميم، إلى الحد الذي يسمح بالقول أن جميع المعنيين بالملف الاقتصادي في الدولة تآمروا على الليرة اللبنانيّة، ولخدمة مصالح فئويّة واضحة للعيان.
تعثّر خطّة التعافي وتفاهم صندوق النقد
من المعروف أن مسألة سعر الصرف تتصل قبل كل شيء بعامل الثقة بمآل قيمة العملة المحليّة، وبتوقّعات السوق لناحية قدرة السلطة النقديّة على ضبط سعر الصرف على المدى المتوسّط. هذا العامل تحديدًا، هو ما يحدد ما إذا كان حملة الأوراق النقديّة بالليرة اللبنانيّة سيلجأون إلى استبدالها بالعملة الصعبة فور تلقيها، أو ما إذا كان حملة الأوراق النقديّة بالدولار سيكتفون بشراء الليرات المطلوبة لتغطية إنفاقهم الشخصي على المدى القصير فقط. وحين نتحدّث عن عامل الثقة وتوقّعات السوق، فالمسألة مربوطة حتمًا بمصير الرهان الوحيد الذي وضعته الحكومة أمام اللبنانيين: خطّة التعافي المالي والتفاهم المبدئي مع صندوق النقد الدولي.
اقتربت بداية شهر أيلول، وهو الشهر الذي كان من المفترض أن يشهد عرض ملف لبنان أمام المجلس التنفيذي لصندوق النقد. وحتّى اللحظة، لا يبدو أن لبنان قد حقق شيئًا من بنود التفاهم المبدئي المعقود على مستوى الموظفين مع الصندوق، ما يشير إلى استحالة موافقة المجلس التنفيذي للصندوق على نقل البلاد إلى مستوى الاتفاق النهائي على برنامج قرض. وتطيير الاتفاق النهائي، سيعني تطيير الورقة التي راهن لبنان على الحصول عليها عليها كشهادة "حسن سلوك"، بما يسمح باستخدامها لضبط سوق القطع والتفاوض مع الدائنين على إعادة هيكلة الديون ومحاولة الحصول على قروض ومساعدات إضافيّة، بالإضافة إلى استقطاب التحويلات الأجنبيّة إلى النظام المالي بعد إعادة هيكلته.
بدا من الواضح خلال الأيام الماضية، مع اقتراب بداية أيلول وتأخّر تطبيق شروط التفاهم صندوق النقد المبدئي، أنّ مسار صندوق النقد وخطّة التفافي بات متعثّرًا، وهذا ما تلقفته السوق جيّدًا. فالشرط المتعلّق بتوحيد سعر الصرف بات مستحيل التطبيق، وخصوصًا مع تعمّد السلطة مقاربة ملف الدولار الجمركي على نحو عبثي (راجع المدن). ولا يوجد حتّى اللحظة ما يكفل رضا الصندوق عن الصيغة التي تم إقرارها لقانون تعديلات سريّة المصارف، والذي يمثّل أحد شروط التفاهم المبدئي (راجع المدن). أمّا تطبيق شروط التفاهم الأخرى، فمستحيل خلال الأيام القليلة المقبلة: لم يبصر مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف النور، والموازنة ما زالت أسيرة الأخذ والرد بين الحكومة ولجنة المال والموازنة، كما لم يبدأ بعد تدقيق ميزانيّات المصارف التجاريّة. أمّا عمليّة تدقيق ميزانيّات مصرف لبنان، فاقتصرت على المرحلة الأولى فقط. وحتّى في ما يخص استراتيجيّة النهوض المالي التي أقرّتها الحكومة قبل الانتخابات، فثمّة شكوك حول مصير هذه الاستراتيجيّة، بعدما أبلغ ميقاتي لجنة المال والموازنة اتجاهه لتعديلها، من دون أن تبصر التعديلات النور حتّى اللحظة.
باختصار، لا يوجد ما يبشّر بالخير على مستوى مسار التعافي المالي، ولا يوجد ما يضبط جنون سوق القطع وخشيتها من مآلات التدهور النقدي الذي تشهده البلاد. أمّا المفارقة الكبرى، فهي أن مسار تشكيل الحكومة متعثّر أصلًا، أي أنّ صلاحيّات متابعة التفاهم المبدئي بات محصورًا بحكومة تصريف أعمال، وهو ما يقيّد هامش حركة السلطة التنفيذيّة.
المنصّة إلى التقاعد
بدأ مصرف لبنان يعد العدّة لتقاعد منصّة صيرفة، وهو ما بدا واضحًا من خلال توقّف استنزاف الاحتياطات التي كان يقوم الحاكم باستعمالها لضخ الدولار عبر المنصّة، بالإضافة إلى تخفيض نسبة الدولارات التي يؤمّنها مصرف لبنان لمستوردي البنزين (راجع المدن). مع الإشارة إلى أنّ ضخ الدولار عبر المنصّة مثّل منذ البداية خطوة عبثيّة لم تندرج من ضمن أي رؤية لتوحيد أو تعويم سعر الصرف، وهو ما كان ينبئ –منذ البداية- بوصول مصرف لبنان إلى مرحلة استنفاد قدرته على التدخّل بهذا الشكل. وهكذا، ومع تراجع عمليّات المنصّة، عاد ضعط الطلب على دولارات السوق الموازية للارتفاع خلال الأيام الماضية، وهو ما انعكس في زيادات سعر صرف السوق الموازية الأخيرة.
في كل الحالات، ومع تقليص حجم عمليّات المنصّة بشكل إضافي خلال الأسابيع المقبلة، من المتوقّع أن تتفاقم عوامل الضغط على الليرة في السوق الموازية، وهو ما سيتقاطع مع عامل تعثّر خطة التعافي المالي، للتسبب بالمزيد من التدهور في سعر الصرف.
مقاربة الدولار الجمركي
من الواضح أن مقاربة مسألة الدولار الجمركي ما زالت تتم حتّى اللحظة بشكل عبثي، بما يفتقر إلى أي رؤية نقديّة أو ماليّة شاملة. وهذه المسألة، كما ذكرنا، ستعني الإطاحة بأي مسار يمكن التخطيط له لتوحيد أسعار الصرف، طالما أن آليّة تحديد سعر الصرف المعتمد لاستيفاء الرسوم تمّت أساسًا من خلال تقاذف المقترحات والأرقام بشكل عشوائي.
لكن أهم ما في الموضوع هنا، هو أنّ عملية تحديد الدولار الجمركي لا تستند أيضًا إلى مقاربة متكاملة لملف الموازنة العامّة، وحسب معطيات وأرقام علميّة وأولويّات واضحة تتصل بالإيرادات والنفقات المتوقّعة. وهذه المسألة بحد ذاتها، ستعني الذهاب نحو تصحيحات عشوائيّة للأجور والرواتب في القطاع العام، من دون أن تقترن هذه التصحيحات بدراسة علميّة واضحة للإيرادات والنفقات المتوقعة. وهذه التطوّرات ستعني إمكانيّة العودة إلى مفاقمة معدلات العجز في الميزانيّة العامّة، والعودة إلى طبع النقد لتمويل هذه العجوزات، ما سيتقاطع بدوره مع عوامل الضغط على سعر صرف الليرة اللبنانيّة.
لكل هذه الأسباب، تتعدّد اليوم العوامل التي تقود البلاد نحو أصعب مراحل الأزمة النقديّة، والتي يمكن أن تنتج المزيد من معدلات التضخّم المفرط، والمزيد من معدلات الدولرة في السوق. وهذا تحديدًا ما يفسّر الارتفاعات الأخيرة في سعر صرف الدولار في السوق الموازية، وهذا أيضًا ما سيفسّر الزيادات المقبلة التي يمكن أن تشهدها السوق خلال الأسابيع المقبلة. مع الإشارة إلى أن تراجع قيمة الدولارات الوافدة إلى سوق القطع، من زيارات المغتربين، نتيجة قرب انقضاء موسم الاصطياف، سيساهم بدوره في تعميق كل عوامل التأزّم النقدي.
تعليقات: