زحلة تقاوم بالعرق والنبيذ وسخاء المغتربين

مغتربو زحلة حضروا إلى لبنان بسبب أزمته، لا طمعاً بسياحة رخيصة، بل لدعم لعائلاتهم (المدن)
مغتربو زحلة حضروا إلى لبنان بسبب أزمته، لا طمعاً بسياحة رخيصة، بل لدعم لعائلاتهم (المدن)


تقاطعت الكلمات خلال إحياء ليالي العرق والنبيذ بمدينة زحلة ليل الأحد الماضي، فدعت المنتشرين اللبنانيين في أنحاء العالم لدعم قطاع إنتاج النبيذ والعرق المرتبط بهوية مدينة زحلة الاجتماعية والاقتصادية. وبات قليل من الخمر ضروريًا لمزيد من تضامن المغتربين المنشود، بعد تحولهم خشبة خلاص من الغرق، في أزمة اقتصادية غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الأولى.


النبيذ والعرق حياةٌ.. لمن؟

ابحثوا أيها المغتربون إذًا عن النبيذ والعرق اللبناني في أماكن انتشاركم، وكلما ارتشفتم منه كأساً، تأكدوا أنكم تساهمون في الحفاظ على فرصة عمل شاب أو صبية، لم يحالفهما الحظ مثلكم بمغادرة البلاد. الدعوة هنا تبدو موجهة تلقائياً لمسيحيي الانتشار تحديدًا، ومن دون أي حرج للوزير المختص، وزير الزراعة، طالما أن تسويق النبيذ اللبناني في الخارج، يحترم الخصوصيات اللبنانية، ويعود إلى مدير عام الوزارة في سنوات متتالية، بعدما قضى تشكيل الحكومات بتعاقب وزراء من حزب الله وحركة أمل على هذه الوزارة.

لكن ارتشاف النبيذ اللبناني، بناءً على مبدأ أنه فعل مقاومة في المجتمعات التي تشتهر به، ورسالة صمود وتشبث بثقافة بيئاتها الحاضنة، وتعبير عن تضامن اجتماعي، يفرز اللبنانيين حتى في مغترباتهم طبقًا لهوياتهم الطائفية، لينصب اهتمام كل منهم بأبناء طائفته، ودعمهم في الحفاظ على الوجود والأرض التي لم يتمكن المغتربون من البقاء فيها.

ولكن الدعوة إلى "المقاومة" بشراء الخمر، ليست سوى مظهر من مظاهر هذا الفرز "التضامني". فعندما يسأل البعض مثلاً عن سر الحانات والمقاهي والفنادق "المفوّلة" في معظم المدن والبلدات المسيحية، يأتي الجواب فوراً: بفضل المغتربين ودولاراتهم. ويعرب هؤلاء صراحة أنهم حضروا إلى لبنان بسبب أزمته، لا طمعاً بسياحة رخيصة، بل لدعم عائلاتهم التي لا يريدونها أن تغرق في وحول الأزمات. ويصرون على التمتع معهم في لبنان. وكأنهم في هذا يتحدون ثقافة الموت المفروضة على أهلهم في بلادهم.

وهكذا انعكست هذه الجدلية بذخًا غير مسبوق في دولارات طازجة، وتحديدًا في المناطق المسيحية، ومنها زحلة، وإنفاقاً في قطاع الأكل والشرب والحانات التي تشهد فورة لم تشهدها منذ سنوات طويلة، كما يؤكد معظم أصحاب المقاهي والمطاعم المخضرمين في زحلة. ويبدو هؤلاء كأنهم يتحدون المصاعب بالإكثار من المآدب والرحلات الداخلية والـ shopping. ويتنافس أفراد وجماعات لتقنيع مشاهد البؤس وعوز المجتمعات من الظهور إلى العلن ولو مرحلياً، فيصعب رصد مظاهر ملموسة للأزمة.


جهود المجتمع الاغترابي

طبعاً هذه ليست المرة الأولى التي تظهر فيها بصمات المغتربين في بلداتهم ومدنهم. في زحلة تحديدًا التي شهدت أكثر من موجة هجرة اقترنت إما بظروف سياسية أو أمنية أو اقتصادية، كان للمغتربين فضل، ليس فقط في إعلاء صروح تحولت معالم خاوية من دونهم، بل بالتدخل السياسي لمصلحة المدينة أيضًا، وخصوصًا لفك حصار زحلة الذي استمر ثلاثة أشهر خلال حرب سنة 1981.

ومثل هذه التدخلات تتكرر عمليًا، سواء في جبل لبنان أو المتن. لكن المختلف حاليًا هو تكتل الجهود الاغترابية في التعبير عن روح التضامن مع المقيمين. وربما هذا ما تتميز به زحلة التي أسس مغتربوها أكثر من ناد لهم في الخارج، لتظهر فاعلية هذه النوادي خلال الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي لا تزال تعصف بالبلاد.

اليوم الجمعة، يجتمع رؤساء أندية هذه الدول ومغتربوها بقصرها البلدي، في مؤتمر ثالث للانتشار الزحلي، الذي تعقده جامعة الانتشار الزحلي الحديثة في المدينة. والنقاش سيطول مجددا حول الدور الذي يمكن أن يلعبه الاغتراب بشكل منظم لتأمين حاجات المدينة. وقد يبدو تنظيم هذه الجهود ضروريًا للوصول إلى دعم مستدام للمدينة. بعدما صارت بصمات هذه الأندية وحتى بعض الأفراد فيها جلية في مبادرات عدة، ليس آخرها قبل أيام تخصيص ريع بيع كتاب Zahle le liban au Coeur الذي أصدرته المغتربة الزحلية باسكال اسطفان في فرنسا على نفقة زوجها لأبناء مدينتها، وخصوصًا تلاميذ المدارس الذين خصصت لهم مداخيل بيعه في احتفال بالقصر البلدي قبل أيام. وخصص مدخول بيع الكتاب للجنة المساعدات المدرسية، التي تأسست بدعم من رئيس بلدية زحلة للمساهمة في أجزاء من أقساط التلاميذ المتعثرين في المدارس الخاصة، بما يؤمن صمود الأهل والأساتذة معًا، ومعظم تبرعاتها حتى الآن تأمنت من المغتربين.

الكتاب كان قد بيع سابقًا بواسطة نادي فرنسا وخصص ريعه لتأمين مساعدات اجتماعية مختلفة لأبناء المدينة، ومن بينها توفير مادة المازوت للأكثر حاجة، والذي تكفلت به نواد زحلية في مختلف أنحاء العالم.

ومثل هذه المبادرات تعبر عن روح تضامنية عالية أثبتها الاغتراب الزحلي في السنوات الثلاث الماضية، فساهم بعضها في إبقاء بيوت دافئة، وأبعدت الجوع عن كبار السن والعائلات الأكثر ضعفا. كمبادرة المغترب نبيل الشرتوني التي، رغم إعلان انتهائها، غرست في أرض زحلة جذورًا لعمل تضامني محلي، نتج عنه توحد جهود جمعيات محلية خمس تستمر بمساعدة 56 عائلة اختيرت من بين عدد أكبر من العائلات التي بقيت تستفيد من أطباق يومية مجانًا، لسنتين ونصف تقريباً، وشكلت مصدر قوتها الوحيد.

وإلى البصمات التي أظهرها التضامن مع "بيت عذراء الفقراء" في تأمين الدواء لعشرات الأشخاص، ودخلت على خطها قبل أشهر سيدة زحلية مغتربة في سويسرا، أمنت الجمعية كميات من الدواء بشكل متواصل عبر شبكة تواصل خلقتها مع صيدليات أقنعتها -بدلًا من تلف أدوية قبل ثمانية أشهر من انتهاء صلاحيته- بتحويلها إلى مرضى لبنانيين هم بأمس الحاجة إليها.


شعب الفرح والتضحيات

إذًا هو نوع من التكافل الاجتماعي الذي تعبر عنه زحلة أسوة بمجتمعات مسيحية أخرى، تحاول أن ترسخ جذور من لا يزال حياً، خوفًا من استمرار نزف الشباب، وخصوصًا أن المسيحيين يعرف عنهم مسارعتهم إلى الهجرة في الأزمات.

وربما تكون هذه المساعدت هي السبب الحقيقي الذي لا يجعلنا نسمع في زحلة مثلاً عن تسرب مدرسي، رغم تعثر الكثير من العائلات. أو عن عائلات جائعة أو تعاني البرد، علمًا أن بعض المساعدات توزع بشكل مستتر على عائلات كثيرة. فمن يشاهد أحوال أهل المدينة يعتقد أنها تنتعش بفورة اقتصادية. والدعم الفردي هو للفرح والكيف، وللتنافس بين المغتربين على إسعاد مقيميهم. وهذا ما عكس نزعة متضخمة للبذخ، تبدو كتحد لمحاولات تدجين اللبنانيين على كونهم شعب خلق فقط للتضحيات. لا يريد المغتربون لذويهم أن يستمروا بدفع ثمن حروب لم يختاروها وأزمات لم يتسببوا بها. ومع أن ذلك يفرض عليهم أعباء تضاف إلى أعباء أزمة عالمية تترك تداعياتها الاقتصادية في كل مكان، فإن أجزاء من ميزانياتهم يستنزفها أهلهم في وطنهم الجريح.


مجتمع الريوع والفراغ

ولكن أيادي الاغتراب هذه أياً كانت فائدتها، تبقى مرحلية ما لم يجر استثمارها في مشاريع مستدامة، تتحول عن النزعة الريعية التي يمكن أن تطعم السمك ولا تعلم الصيد. خصوصًا أن بقاء المجتمع ريعيًا في البيئات المسيحية ومن بينها زحلة، لن يسهم في الحفاظ على شباب المدينة، الذين يحتاجون أولًا فرص عمل كي يبقوا في مدينتهم. وبعكس ذلك تكون زحلة مهددة بأن تبقى مدينة للمتقاعدين غير المنتجين فقط. وفي المجتمعات الزحلية حديث مطول عن أحياء تفرغ من أهلها، ليأتي من يسد خلوها من خارج المدينة. لذا يتمنى الزحليون أن يتنبه مؤتمر الانتشار الزحلي، للتحفيز على خلق استثمارات قد يسهم ببعضها الاغتراب الذي لا يتردد في التعبير عن التعلق بالمدينة.

لذلك يبدو مفيدًا أن يخرج المؤتمرون بجهد مشترك للاستثمار في مقدرات المدينة، وأبرزها المقدرات السياحية التي تتميز بها زحلة، والتي سيضيء المؤتمر على بعضها، إلى جانب عرضه مشاريع ناشئة يحاول شباب المدينة أن يستثمروا فيها، رغم كل الصعوبات. وكذلك دعم منتجات المدينة الغذائية ومن بينها النبيذ والعرق، وخلق شبكة سياحة بيئية وفقًا لما تجمع عليه المطالبات.

فالمغتربون مهما كانت حماستهم وتنافسهم في الإنفاق على أهلهم يغادرون إلى بلادهم خلال أيام. ومفاعيل دولاراتهم الطازجة قد تبقى ظاهرة في بعض القطاعات، وخصوصًا تلك التي تستقطب الشباب، أو تحفظ كرامة كبار السن. لكنها أموال تطير في الهواء كما أموال المودعين التي لا تزال تنفق في سياسات الدعم.

أما مرحلياً فيبقى للاغتراب فضله في صمود ظرفي، يوجه أكثر من رسالة في أكثر من اتجاه، وأولها رسالة الحياة بدلًا من الموت، ورسالة السلام والفرح بدلا من العيش دائما بثياب الحداد.. وهذه ليست سوى مظهر من مظاهر الهوة بين الثقافات التي تعمق الشروخ بين المجتمعات، لينعزل كل مجتمع منها في بيئته المختلفة.

تعليقات: