معارض جديد لبوتين ينتحر في واشنطن!


أثار العثور على المعارض الروسي المعروف دان رابوبورت جثة هامدة على رصيف المبنى الفخم الذي يعيش فيه في واشنطن العاصمة علامات استفهام كبيرة حول سبب وفاته، خصوصًا وأن معطيات كثيرة تلقي بظلالها على رواية الإنتحار التي راجت فور العثور عليه الثلاثاء قبل الماضي، في واقعة انهت حياةً زاخرة بفصول مثيرة تليق بحياة الجاسوسية أو أفلام التشويق.

الشرطة الأميركية قالت انها تلقت بلاغًا هاتفيًا عن شخص قفز من طبقة مرتفعة على شارع "M" في حي جورجتاون الراقي في واشنطن فتوجهت دورية الى المكان وعثرت على جثة رابوبورت (52 عامًا) ملقاة على الرصيف وكان بثيابه يعتمر قبعة قطنية سوداء وينتعل صندلًا خفيفًا برتقالي اللون، وعثر معه على هاتف محمول متصدّع وسماعات ومبلغ 2620 دولار، الا أنه لم يكن يحمل اية محفظة شخصية أو بطاقات مصرفية، وفيما تتواصل التحقيقات التقليدية التي تجري في حالات الانتحار، حيث يتم تشريح الجثة وفحص الدم بحثًا عن اثار كدمات او مخدرات أو عوارض صحية، أوضحت الشرطة انها لا تشتبه بوجود ما يثير الريبة وراء الحادث.

قوبل خبر موت رابوبورت بتوجيه أصابع الإتهام فورًا الى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وسارع صديق رابوبورت المصرفي الأميركي والناشط السياسي المعروف بيل (وليم) براودر الى اعتبار الحادث مثيراً جدًا للشبهات معتبرًا أن اعلان الشرطة ينم عن سذاجة مفرطة "لأنه عندما يموت شخص له موقف سلبي من نظام بوتين ينبغي الإصرار على وجود شبهة وريبة وليس استبعاد ذلك"، وبراودر، الذي يمثل الآن رأس الحربة في حملة مقاطعة موسكو، يعرف الى حد ما يتحدث عنه فقد مات صديقه ومحاميه المعارض سيرجي ماغنيتسكي في ظروف غامضة في سجن روسي قبل بضعة أيام من موعد اطلاق سراحه عام 2009 – اصدر الكونغرس الأميركي القانون الذي يحمل اسمه عام 2012، لمعاقبة ومقاطعة المسؤولين الفاسدين والمرتشين في العالم-.

كثيرة هي المؤشرات التي تؤيد ما ذهب اليه براودر وأولها أن موقع "تلغرام" الواسع الانتشار في روسيا كان أول من اذاع خبر موت رابوبورت حيث اعلنت الصحافية الروسية يونيا بوغاتشيفا انه "انتحر" بعدما ترك كلبه في حديقة عامة ومعه وصية ومبلغ من المال. وهذه الصحافية معروفة بنشر اخبار سلبية عن رابوبورت كان آخرها خبر انه انفصل عن زوجته الأوكرانية ايليونا ويعيش حياة مجون في لندن، الا أن زوجته الموجودة في الدانمارك مع ابنتهما نفت أن يكون زوجها اقدم على الانتحار أو أنه ترك رسالة خطية وقالت انها كانت على موعد للقاء معه في أميركا قريبًا، وهو ما أكده ايضًا صديقه الخبير بالشؤون الروسية جاسون جاي سمارت الذي قال أنه كان لديهما جدولٌ حافلٌ بمواعيد العمل للأسبوع المقبل وما بعده.

ولد رابوبورت في مدينة ريغا عاصمة لاتفيا عام 1970، لعائلة يهودية مرموقة، وانتقل مع أهله الى أميركا عام 1980 بعد حصولهم على اللجوء السياسي، وحصل عام 1991 على شهادة في إدارة الاعمال من جامعة هيوستن وعاد الى موسكو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لينضم الى الأوليغارشية الناشئة التي جنت ثروات طائلة من بيع القطاع العام والاستثمار في قطاعي المال والنفط، الّا أن حياة الليل كان تروق له أكثر فافتتح عام 2007 مطعمًا وملهى ليليًا في موسكو مع شريكه سيرغي تكتشينكو اسمياه "سوهو" سرعان ما اصبح مقصد وملتقى رجال الأعمال والصحافة الأميركيين والغربيين.

بعد عودة بوتين الى الرئاسة عام 2012، غادر رابوبورت موسكو مع زوجته الروسية ايرينا وطفليهما الى واشنطن، واعلن في مداخلة غاضبة على صفحته في فيسبوك أن الحياة في روسيا أصبحت مقرفة ولا تطاق. وفي واشنطن أسس شركة استثمار واستشارات مالية تحمل اسمه، وبدأ نشاطًا علنيًا معارضًا للكرملين، واستقطب رموز المعارضة الروسية ونشط اعلاميًا كخبير في الشؤون الروسية والاوكرانية، الا أن دوره الأبرز في مناوءة بوتين كان في اختراع شخصية وهمية على الفيسبوك تحمل اسم "ديفيد جوبرغ" الذي قدم نفسه كضابط سابق برتبة عقيد في الجيش الأميركي ومستشار للشؤون الروسية في البنتاغون، وتمكن من خلال مداخلاته ومعلوماته الدقيقة من قلب موسكو أن يصبح مصدرًا معتمدًا لدى المعارضة الروسية حتى انكشف أمره لاحقًا.

بعد فوز دونالد ترامب بالرئاسة في أميركا عام 2016، باع رابوبورت بيته الفخم في واشنطن بـ 5.5 ملايين دولار لإبنة ترامب ايفانكا وزوجها جاريد كوشنر، وانتقل للعيش في العاصمة الأوكرانية كييف بعد طلاقه من زوجته. وهناك تعرف الى زوجته الجديدة واسس شركة استثمار وواظب على الظهور في وسائل الاعلام الغربية كخبير موثوق يتابع الحرب المفتوحة مع الانفصاليين على الحدود الشرقية لأوكرانيا، ومع الغزو الروسي في شباط الماضي نقل زوجته الجديدة وابنته الى الدانمارك وعاد الى واشنطن ليمهد لعودتهما وفق شهادات أصدقائه.

لم تكن إقامة رابوبورت في كييف سعيدة، ففي العام 2017، مات شريكه تكتشينكو بعدما سقط من شرفة شقته في موسكو في حادث غطته كاميرات التلفزيون مباشرة، ووصف بأنه انتحار. وفي العام 2020 تعرض صديقه الأشهر وزعيم المعارضة الروسية الكسي نفالني لمحاولة اغتيال بالسم، وتم توقيفه وسجنه للمرة الثالثة بعد عودته من رحلة علاجه في المانيا، حيث لا يزال معتقلًا في ظروف غير واضحة حتى اليوم.

وما يزيد من الشكوك في "انتحار" رابوبورت أنه لقي مصير الكثيرين من معارضي بوتين الذين "انتحروا" أو قتلوا بالسم أو بالسلاح داخل وخارج روسيا، ولم تسلم العاصمة الأميركية من حوادث مشبوهة مماثلة، ففي العام 2015 توفي المستشار الإعلامي السابق لبوتين في فندق في واشنطن واعلنت الشرطة في حينه انه قضي جراء نوبة قلبية الا ان الطبيب الشرعي افاد لاحقًا بأن الوفاة ناتجة عن تعرضه لضربة قوية.

من روسيا الى أميركا مرورًا ببريطانيا وألمانيا واسبانيا وأوكرانيا مسلسل طويل من الموت المفاجئ الذي لاحق معارضي فلاديمير بوتين من اعلاميين وسياسيين ومتمولين وتم تصنيف الكثير منه في خانة الانتحار، الذي يبدو المخرج المفضل للتخلص من الخصوم، وفي ظل وجود المافيا الروسية المتداخلة مع مخابرات موسكو، وبمواكبة من شبكات اعلام وتواصل اجتماعي فعّالة، يسهل الخلط المتعمد بين الاغتيال والانتحار في غياب العدالة والعقاب.

تعليقات: