كان رعبنا آتٍ من يقيننا للشبه المخيف بين العراق ولبنان (Getty)
مشاهد تلك الجحافل من الشبان والرجال في بغداد والبصرة وهم يفيضون في الشوارع والساحات ويقتحمون المباني بالفوضى والصراخ والقبضات والرايات، كانت تقابلها أيضاً مشاهد لأقرانهم ممتشقي الرشاشات وقاذفات الآر. بي. جي. حشود شبه مدنية وشبه عسكرية، متخالطة متصادمة بعنف وانفلات غرائزي، راحت تخوض معارك شوارع عشوائية مرعبة، كانت تُنقل في بث حي عبر كل هواتف هؤلاء الألوف من المشاركين في هذه المعمعة الدموية. عصيان وتمرد وغضب من جهة، وميليشيات مسلحة عاصية ومتسلطة تحترف القتل من جهة ثانية.
هذه هي باختصار "الحياة السياسية" في العراق اليوم. زعماء دينيون ومدنيون وميليشياويون باستطاعتهم التسبب بهلاك المئات وتخريب الممتلكات وتحطيم الدولة ومؤسساتها عند أي خلاف سياسي وفي أي لحظة حرد. دم رخيص يهرق مجاناً.. بلا أي حساب. بل ولا محاسبة للذين استسهلوا تحريض الناس ورميهم بوجه الرصاص أو الذين استرخصوا حياة المئات وقتلوهم بلا تردد ولا وجل.
والمخيف أن القتلة والضحايا والمتفرجين والمشاركين، جميعهم كانوا منهمكين في رفع هواتفهم وتصوير ما يجري وما يفعلون وما يشاهدون، بالقدر نفسه لانهماكهم في إطلاق النار أو رمي الحجارة أو إشعال ما توفر بين أيديهم. في واحد من المشاهد كان عشرات الرجال منبطحين وسط الشارع والرصاص الغزير يأتيهم من جهات عدة.. مع ذلك، كانوا يغالبون خطر موتهم ويرفعون رؤوسهم وهواتفهم ويصورون أنفسهم وما يحدث حواليهم.
في مشهد آخر، سوريالي أيضاً، كان المسلحون يرمون قذائف الآر. بي. جي. ويطلقون الرصاص برشاشاتهم الخفيفة والمتوسطة، وبجوارهم (لصقهم تماماً) يقف العشرات بكل أريحية وهدوء وطمأنينة ممسكين كاميرات هواتفهم، يتفرجون ويصورون في آن معاً، غير آبهين.. وكأن المعركة مجرد لعبة فيديو.
الموت رخيص والصورة أيضاً.. تلك هي "الحياة العراقية" اليوم.
في انتفاضة تشرين العراقية عام 2019، بدأ قتل الشابات والنساء كإحدى أولى المهمات "الجهادية"، ثم كانت موجة قتل الشبان المتعلمين "الناشطين" المدنيين، بالتزامن تقريباً مع موجة "التطهير" المروعة التي طالت المثليين أو حتى المشتبه بـ"ذكوريتهم". كان عنفاً فالتاً واقتراف القتل هيّناً، بسهولة شرب الماء.
والمذهل أن فائض العنف والسلاح وانعدام أي كابح للقتل لم يكن يثير أي حذر أو تردد لعشرات آلاف اليافعين وشبان الشوارع والضواحي، كما لو أنهم بدورهم يستسهلون موتهم الوشيك.
الحياة رخيصة في العراق اليوم.
لكن هذا ليس في العراق وحده. ما يشبهه تماماً حدث مراراً في مدن السودان وليبيا واليمن. القتلة والضحايا، المسلحون والعزل يستسهلون الموت إلى حد شبهة الرغبة به. رغبة بحرب أهلية شاملة.
وما حدث في كل تلك االمدن العربية، رأيناه كثيراً في لبنان. وآخر تلك المشاهد اللبنانية كانت في تشرين 2021، عند دوار الطيونة الفاصل بين الشياح وعين الرمانة. مذبحة ذهب إليها بسهولة فائقة الضحايا والقتلة. وكانت أيضاً تلك الهيستيريا بالكاميرات والهواتف والبث المباشر للفرجة.. والموت المجاني.
واللبنانيون حين كان "يتفرجون" على "حفلة الدم" العراقية، كان يحدسون بتوجس حقيقي أن قابلية تكراره ومماثلته هنا في بيروت أو ضواحيها لهو أمر ممكن جداً، بل ومتوقع.
فهنا، لدينا ما يشبه مقتدى الصدر وما يشبه المالكي وما يشبه "الحشد الشعبي" وما يشبه أولئك الشبان والجماهير الغاضبة والقبضات والصرخات والعصبيات والرايات، والمسلحين وقواذف الأر. بي. جي والرشاشات. وكلهم مزودون بهواتفهم الذكية ووسائل الإعلام الغبية والفاجرة أيضاً.
لدينا كما العراق تلك الزعبرة "الديموقراطية التوافقية"، ولدينا التيارات والأحزاب ذاتها، بل ونزيد بعدد المذاهب والطوائف المتناحرة. عندنا كذلك نتيجة الانتخابات عينها، والكتل النيابية والحقارة السياسية ذاتها.. والجهوزية الميليشياوية أيضاً. نتفوق مع أشقائنا العراقيين بالفساد السياسي والمالي والإداري والنهب الواسع النطاق للثروات.
الانسداد المتعمّد في العمل السياسي، والتنافس في الهرطقة الدستورية وابتذال القوانين، وتربية الدويلة الشرسة في حضن الدولة المتحللة، وتوزيع اليأس اليومي كعملة وطنية.. كلها "هوايات" مشتركة بين العراق ولبنان.
كنا نتفرج على المذبحة في طرابلس الغرب وفي بغداد.. ونشعر أن دمنا أيضاً سيسيل في شوارع بيروت بعد يوم أو شهر أو سنة. كان رعبنا آتٍ من يقيننا للشبه المخيف بين العراق ولبنان.
كنا نتفرج ونمضغ يأسنا ونتنبأ: مستقبلنا مذبحة جديدة.
تعليقات: