ماري قليعاني وربيع الجمال
الإنسانية والمحبّة الحقيقية ليسا شعارات رنّانة، بل أفعال تُثبَت عند المواقف والاستحقاقات. نكتب عن فريق العدّائين الكفيفين، الذي تقوده المدرّبة العدّاءة ماري قليعاني. هي تجربة تستحقّ التأمّل واستخلاص العبَر، وتعلّم دروس الإرادة الصلبة والقوّة الداخلية والمحبّة غير المشروطة والعزم، والتأكّد من أنّه لا مستحيل في هذا الكون.
في عام 2016، تعرّفت ماري إلى ربيع الجمال خلال أحد السباقات. عرض عليها تنظيم ماراثون بمسافة 42.195 كيلومتراً. وفوجئت بعرضه، لكونه كفيفاً يشارك في سباقات #الركض. تعجّبت ماري من رغبة ربيع، ومعرفته بهذا التفصيل المتعلّق بالماراثون.
جرى هذا الحديث قبل انطلاق ماراثون بيروت بحوالي شهر، ولم يكن الوقت كافياً لتحضير ماراثون بناءً على رغبة ربيع في هذا الوقت. لكن ماري وعدت ربيع بأنّها في "العام المقبل، سأركض في الماراثون باسمك لا باسمي".
وبقي وعد ماري يراودها، حتى ذات يوم، سألت ربيع عمّا إن كان يرغب في التدريب للماراثون، فأجابها بالتالي: "أكيد، إذ لم يعدني أحد بأمر ووفى به سوى والدتي". أثّرت هذه الكلمات في ماري، وأصرّت على الوفاء بوعدها تجاه ربيع.
بدأ الثنائي بالتمرين قبل الماراثون بحوالي 6 أشهر للمشاركة في ماراثون بيروت. واجها صعوبات في التمرين، لأن التدريبات كانت تجري على الطرقات العامة، كغياب الإنارة والطرقات غير الآمنة ونظرة الناس التي لا تفهم ما تشاهده في هذا التدريب. فماري تربط يدها بيد ربيع عبر حبل قصير، وتركض بجانبه، وترشده وتشرح له تفاصيل كل ما يدور حوله ومسار الطريق والوقت.
يبدأ ربيع الركض بهدوء إلى جانب ماري، و"عامل الثقة هو الأهم ليركض الكفيف مع أيّ مدرّب"، تروي ماري لـ"النهار".
كان ربيع أول كفيف تتعرّف إليه ماري، ولم تكن تعرف كيفية تدريب كفيف على الركض. لكنّها بحثت والتحقت بدورات وصفوف مختصّة.
بعد انتهاء ماراثون بيروت، بدأ ربيع يشعر بفسحة النور التي زوّدته بها هذه التدريبات، وتغيّرت حياته كلّها، فهو كان يدخّن بكثرة ويعيش وحده ويسهر ليلاً ويفرط في تناول القهوة. لكن مع التمرين تغيّر نمط حياته، تسرد ماري، وأصبح منخرطاً جداً في مجتمع الركض، وبات روتيناً لم تستطع ماري ولا ربيع كسره.
واصل الثنائي التدريبات. وفي عام 2018، ركضت ماري وربيع في ماراثون في روما، وكانت المرة الأولى التي يسافر فيها ربيع في حياته. وكان الماراثون الثاني الذي يركض فيه ربيع أيضاً. من هنا تكوّنت فكرة فريق من العدّائين الكفيفين في ذهن العدّاءة.
عالمياً، يُكتب على قمصان العدّائين الكفيفين خلال السباقات "كفيف" وعلى قميص مدرّبه "مرشِد". لكن ماري لم تستطع اعتماد هذه المفاهيم على القمصان، فهي تحمل رؤية تغيير هذه النظرة الكلاسيكية، "إذ لا أحد يهتمّ بالكفيفين في #الرياضة في لبنان أبداً"، وفق قول ماري. من هنا، ترسّخ اسم فريق Blind with vision. وقرّرت تشكيل فريق من العدّائين الكفيفين بعدما لمست تغيّر حياة ربيع 180 درجة، وسعت إلى نشر هذا التغيير على باقي الكفيفين.
في عام 2019، أصبح في فريق ماري، 5 أشخاص من الكفيفين، وشخص من الـlegally blind، أي الأشخاص الذين يمتلكون 10 في المئة فقط من نظرهم ولا يرون بوضوح. وتعمل ماري على تعزيز نظرهم الباقي.
أمّنت ماري 5 أشخاص ليركضوا مع الكفيفين ودرّبتهم على الإرشاد. وفي العام نفسه، ركضت ماري مع أول شابّة كفيفة في الشرق الأوسط في ماراثون كامل.
استمرّت الفكرة وتطوّرت. وفي العام التالي، زاد فريق ماري 4 أشخاص ليصبح مكوّناً من 9 رياضيين كفيفين.
في بداية العام الجاري، فكّرت العدّاءة في ضرورة تأسيس منظمة غير حكومية لمساعدة هؤلاء الأشخاص، ولتمويل تدريباتهم. وأصبحت منظمة Blind with vision غير الحكومية، تعمل بشقّين: رياضي وثقافي.
وفيما كان ربيع أول كفيف في الشرق الأوسط يشارك في سباق رياضة الترياتلون، تبدي المنظمة استعدادها لتدريب الكفيفين على أي رياضة أخرى، فهم قادرون على ذلك لتركيزهم القوي وإرادتهم الصلبة والتزامهم الهائل.
كذلك تعمل المنظمة على رفع الوعي تجاه الكفيفين لمعرفة كيفية التعامل معهم، وتسعى إلى إدماجهم في الوظائف، كما ينصّ القانون، فهم متعلّمون ومثقفون كغيرهم وأحياناً أكثر، وفق تعبير ماري.
حالياً، تتّجه المنظمة إلى المدارس لرفع التوعية لدى الأعمار الصغيرة من الكفيفين وتوعيتهم على هذه الرياضة، لإنشاء جيل واعٍ يمكنه المشاركة في سباقات دولية لذوي الحاجات الخاصّة وإحراز ميداليات.
و"لأنّ هؤلاء الأشخاص وثقوا بنا، استطعنا نشر التوعية أكثر فأكثر وأملنا بالتوسّع أكثر"، تأمل ماري، مضيفةً: "يحق لهؤلاء الأشخاص أن يحلموا، فربيع لم يولد كفيفاً. وفي عام 2003 رأى الماراثون الأول الذي أُقيم في لبنان، وبعد 13 عاماً، حقّقنا له ما حلم به طيلة هذه المدّة".
تعليقات: