لم يكن المفتي متحمساً لمثل هذا الدور أو اللقاءات (علي علوش)
"ينتحر" السنّة أكثر عندما يصرّون على تحويل أنفسهم إلى طائفة. ينطوي هذا المسار على مخاطر كثيرة تقودهم إلى فقدان دورهم ومبادرتهم. والأخطر هو تكبير الشعارات إلى حدّ وصف لقاء دار الفتوى، في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، بأنه مسعى لتوحيد الصف السنّي.
لم يكن الحديث عن هذا اللقاء اليوم لولا الفراغ السنّي المستفحل، وهو ما يستشعره الناس. والأخطر هو سد الفراغ بالرهان على الوهم، أو ببناء التصورات على ما هو غير قابل للوجود ومنعدم الوزن. غياب الدور والتأثير لدى السنّة في لبنان، مستمد من غياب دورهم وتأثيرهم على صعيد المنطقة، بعد سحقهم في سوريا والعراق، وغياب أي رؤية استراتيجية من شأنها أن تعيد الاعتبار السياسي لهم، والذي يفترض أن يكون قائماً على مشروع متجدد للأفكار، حول بناء الدولة الوطنية بدلاً من الغرق في صراعات طائفية ومذهبية.. لا ليكون أقصى طموحاتهم تحويل دار الفتوى إلى ما يشبه الدور الذي تطّلع به البطريركية المارونية، مع فوارق كثيرة اجتماعية، ثقافية، خدماتية وسياسية.
استصغار الدور
تلقّى السنّة الضربة القاصمة في اغتيال رفيق الحريري، والتي جاءت ما بعد اجتياح العراق، واغتيال ياسر عرفات، مع اختلاف الشخصيات والمشاريع والرؤى والظروف في كل دولة من هذه الدول. على دم رفيق الحريري نجح السنّة في إنتاج مشروع وطني يرتكز على عنوان مسيحي سابق هو "لبنان أولاً". لم يُستكمل هذا المسار لأسباب كثيرة وأخطاء كبيرة وخطايا أكبر. عادت لعبة السلطة لتتحكم بهم، طالما أنهم تغيبوا عن أي مشروع سياسي، فيما تقدّمت أولويات أخرى لدى العرب على الاهتمام بالعراق وسوريا ولبنان، كمثل الاهتمام بما جرى في ثورات الربيع العربي في البحرين، مصر، واليمن.
المحطّة الفاصلة الثانية كانت في التسوية الرئاسية بالعام 2016. حينها تركّز تصغير السنّة وتحجيم دورهم، فانتقلوا من عرّابي تجمّع 14 آذار ولبنان أولاً، إلى عنوان التحاصص والتقسيم على الأساس الطائفي والمذهبي، وفق ما اقتضت شروط التسوية. عندها استصغر السنّة قدرهم ودورهم، واستفحلت الانقسامات بين صفوفهم، وصولاً إلى انفراط عقد التسوية بعد تجاوز كل ما له علاقة بالطائف أو الدستور أو الدور على الصعيد الوطني. وهو ما استمر في الانتخابات النيابية الأخيرة، وصولاً إلى اليوم، ومحاولات العمل مع مفتي الجمهورية على التحضير للقاء جامع لنوابهم.
حزب الله ونوابه السنّة
شخصيات عديدة دخلت على خطّ المفتي للتحضير لهذا اللقاء. تضاربت التوجهات في الهدف منه. فبعضهم اعتبر أنه مناسبة لخلق كتلة سنية منسجمة، قادرة على تحديد موقفها تحت راية دار الفتوى. فيما البعض الآخر لم يقف مكتوف الأيدي، بل تحرك على قاعدة أنه يمثّل السنة أيضاً، وإن كان متحالفاً مع حزب الله. فوجهت نصائح للمفتي بضرورة دعوة كل النواب مهما اختلفت توجهاتهم السياسية. سارع حزب الله وتلقف المبادرة، والإقدام عليها أكثر بمطالبة نوابه بالمشاركة والحضور. فحصلت هجمّة مضادة من قبل الحزب باتجاه الدار عبر الزيارات التي أجراها النائبان ينال الصلح وملحم الحجيري، وهما أعضاء في كتلة الوفاء للمقاومة، وأكدا حضورهما اللقاء إلى جانب نواب آخرين متحالفين سياسياً مع الحزب. وعليه، لن يكون هناك توجه جامع في الموقف السياسي، باستثناء العناوين العريضة حول ضرورة إجراء الاستحقاقات في مواعيدها والالتزام بالدستور والدور الوطني. وهذه كلها مواقف لا تعدو أكثر من ظواهر صوتية لا قيمة فعلية لها ولا تأثير. لا بل سيخرج السنّة بعد هذا الاجتماع في حالة من التشتت الأكبر والضياع الأشمل.
دريان والتجارب الصعبة
معروف أن المفتي دريان، لم ينطلق بحماسة سياسية، وهو لم يكن متحمساً لمثل هذا الدور أو اللقاءات، لكن الظروف فرضت ذلك عليه. وراء ذلك أسباب عميقة، أولها علاقته برئيس تيار المستقبل، ثانيها عدم رغبته باتخاذ موقف صدامي. ثالثها أنه حين تتعلق الرهانات على تدخل رجال الدين في السياسة، فهذا دليل على انعدام رجال السياسة أو المشاريع السياسية. وفي مثل هذه الحالات تكون النتائج كارثية. بخلاف دور بكركي الحاضر مع حضور أحزاب وقوى سياسية مسيحية يسعى كل منها إلى استقطاب البطريركية إلى جانبه، والحصول على دعمها المعنوي أو السياسي.
أيضاً لا يمكن إغفال مشهدين أساسيين من ذهنية أي متعاط للشأن العام، وخصوصاً إذا ما كان في موقع مفتي الجمهورية الذي سبقته تجربتان، الأولى تجربة المفتي حسن خالد والذي كان صاحب مواقف سياسية ومشروع واضح فكان مصيره الاغتيال. والثانية هي تجربة الشيخ محمد رشيد قباني الذي اتخذ مواقف مؤيدة لقوى 14 آذار وتيار المستقبل، وفيما بعد وقع الإشكال بينهما فتكتّل الساسة السنّة ضده لتنحيته واختيار دريان خليفة له. بين ليلة وضحاها وجد قباني نفسه في حالة انعزال ووحدة. فمدّ له حزب الله يد العون والمساعدة. مثل هذه التجربة ربما تبقى حاضرة في ذهنية دريان حول أخطاء الساسة أو سوء تقديرهم، فيريد إبقاء كتفه مسنوداً على آخرين أو على موقفه المتوازن كي لا يفرغ من تحته السند. وهنا لا بد من استذكار رفضه لتبني مواقف البطريرك الراعي حول الحياد وعقد مؤتمر دولي خاص بلبنان. وعندما جرت محاولات لعقد قمة إسلامية مسيحية لم يبد دريان حماسة لذلك.
الحريري ونادي الرؤساء
منذ العام 2005 سيطرت كتلة المستقبل النيابية على أكثرية القرار لدى النواب في الطائفة السنية. والنواب السنّة الذين كانوا خارج كتلة المستقبل، كانوا شديدي الوضوح بانتمائهم إلى قوى الثامن من آذار، أو باللقاء التشاوري. حتى في العام 2018 كان سعد الحريري لديه كتلة نيابية قادرة على التحكم بالمفاصل السياسية السنية في المجلس النيابي. بطريقة غير مباشرة، كانت سيطرة الحريري على القرار النيابي السنّي طوال السنوات الماضية، وخصوصاً ما بعد التسوية الرئاسية ومرحلة الجفاء مع السعودية، جعلت من رؤساء الحكومات السابقين نادي رؤساء الحكومات كآلية ضغط على الحريري، ومحاولة للتأثير على قراراته وتداعياتها.
تعليق الحريري للعمل السياسي، وعدم خوض الانتخابات الأخيرة، أفقدت نادي رؤساء الحكومة السابقين أي دور أو تأثير. قبل الانتخابات شهدنا بعض المحاولات للتأثير على النتائج الانتخابية وإنتاج كتلة سنية موحدة، وهو لم يحصل. أما اليوم فإن محاولة إنشاء تكتل نيابي سنّي، فيعني الاستمرار في محاولة استخدام الأدوات أو الآليات ذاتها مع تصوّر بأنها يمكن أن تؤدي إلى نتائج أفضل، علماً أنه من الغباء ممارسة العمل ذاته بالآليات ذاتها وتوقع نتائج أفضل، على ما يقول آينشتاين.
استحقاق الرئاسة وأبعد
أنتجت الانتخابات مجموعة نيابية غير متجانسة، تختلف بأولوياتها الإنمائية والسياسية والمناطقية. وأي فكرة لإنشاء تكتل نيابي سنّي قبل أقل من شهرين على انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، يتركز على توحيد الموقف في طريقة التعاطي مع الاستحقاق الرئاسي، إما من خلال تسمية أحد المرشحين، أو من خلال مقاطعة الجلسات، أو التفاهم مع الآخرين على إحدى الشخصيات.. لن يكتب لها النجاح، بسبب التضارب في التوجهات السياسية. فالأولويات لديهم متباعدة جداً. التعاطي في الملف الرئاسي لا يمكن فرضه من عناوين طائفية، إنما وفق مقاربة سياسية ووطنية. وهنا يبدو نواب التغيير المتمسكين بالدستور لا بالمرجعية الطائفية محقين في طرحهم وقناعتهم.
لا يعوَّل على أي مشروع سياسي يمكن أن يرتكز على لقاءات واجتماعات من هذا النوع. فأقمشة ممزقة لا تصنع ثوباً. المشروع الذي يمكن المراهنة عليه هو القادر على إنتاج أحزاب سياسية أو إحياء أحزاب وتيارات مع أفكار قادرة على التجدد والتجديد. هذا وحده هو القادر على فرض الرؤية واستقطاب الآخرين إليها، بما فيها رجال الدين أو المرجعيات، بشكل لا تكون فيه قادرة على الخروج من السقف السياسي. وعلى ذلك أكثر من مثال، إذ تطرح بكركي سقفاً سياسياً معنياً فيضطر الأحزاب المسيحيون للتنافس فيما بينهم حول من يكون أقرب أو أكثر تبنياً لهذا الموقف، أو أن تلجأ الأحزاب والشخصيات السياسية إلى رفع السقف السياسي، فتضطر المرجعية الدينية إلى تبنيه. وهذا انطبق في إحدى المراحل على علاقة بكركي بالأحزاب، وينطبق على علاقة المختارة مع مشيخة العقل. وأيضاً لا يمكن إغفال حالات الافتراق بين المرجعيات الدينية والأحزاب أو الزعامات السياسية، كما حصل بين كميل شمعون والبطريرك المعوشي، أو كما حصل خلال الوصاية السورية بين المختارة وشيخ العقل بهجت غيث.
تعليقات: