بعنوانٍ أكثر من مباشر «1982»، تعود شبكة «الميادين» لتقديم واحدٍ من أبرز الأحداث الجلل التي عصفت لا بلبنان فحسب، بل بالوطن العربي ككل: الإجتياح الصهيوني لأوّل عاصمةٍ عربية، بيروت في عام 1982. قام الصهاينة عام 1978 باجتياحٍ لم يعرفه العالم كثيراً، ذلك أنه لم يتجاوز مدناً كبرى، فبدت أضراره محدودة، لكن الاجتياح الذي تبعه بأربعة أعوامٍ قصيرة، جاء قاسياً في صيفٍ كان ثقيلاً للغاية. في الذكرى الأربعين للاجتياح على لبنان، يأتي وثائقي «1982» باعتباره نوعاً من التأريخ الحيوي لما يمكن اعتباره من أسوأ اللحظات التاريخية في الوطن العربي؛ على أن يعرض على اربعة أجزاء بمعدّل جزءٍ كل يوم ثلاثاء في الساعة التاسعة مساء بتوقيت بيروت. علماً أنّ الحلقة الأولى عرضت الثلاثاء الماضي.
ومع أغنية «لبنان صباح الخير» العبرية، تكون البداية كما لو أنَّ معدّة الوثائقي هدى رحمة ومخرجه خضر رزق ومشرفه العام حسين فضل الله، كانوا يريدون أن يغمزوا من قناة حديث وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر بأنّ «العصر الصهيوني قد بدأ»، مستفيداً من نقاشٍ له مع رئيس وزراء العدو آنذاك مناحيم بيغن. يبدأ الجزء المعنون «بيروت تحت النار»، مركزاً محاوره على الاجتياح الذي بدأ في الرابع من حزيران (يونيو) والمعارك التي جرت ابتداءً من عاصمة الجنوب صيدا، مررواً بمنطقة الدامور، وصولاً إلى بيروت، وتحديداً معركة خلدة الشهيرة. علماً أنّ الفلسطينيين أرّخوا لها كثيراً عبر أغنية فرقة «العاشقين» «إشهد يا عالم» التي روت الحدث الجلل هذا بجملة «وبخلدة خلتنا الوحدة يا بيروت- لبنانية فلسطينية» في إشارة إلى وحدة الدم آنذاك وقساوة المعركة.
الوثائقي، الذي يعتمد الأسلوب الكلاسيكي في الوثائقيات، والصور والفيديوات التوثيقية الحقيقية، يوضح كيف «سقطت المناطق الواحدة تلو الأخرى. لم تواجه اسرائيل قتالاً منظماً، تراجع المقاتلون إلى الوراء، كان قرار الإنسحاب أسرع بكثير من تقدم القوات الغازية، بينما قررت مجموعاتٌ صغيرة المواصلة ولم تلتزم قرار الإنسحاب». بهذه الجمل القاسية وإن كانت تحمل بعض الأمل في نقطتها الأخيرة، يبدأ الوثائقي. يحكي معلوماتٍ جديدة كالحديث عن مجزرة قام بها الغزاة الصهاينة بحق أبناء مدينة صيدا، ما سرّع في سقوط المدينة؛ لكن المقاومة فيها لم تتوقف، إذ أوقفت القوات المشتركة مراراً محاولة صهيونية بإنزالٍ على شواطئ المدينة. سرعان ما يظهر الوثائقي «ثقل الأمر وفداحته» حين تبدأ مشاهد «التهجير والخيم» وفظاعات مما حدث. يشرح الأمين العام الراحل للحزب الشيوعي جورج حاوي كيف أنَّ هذا الإجتياح كان «مؤيداً وممولاً وموافقاً عليه عربياً» قبل أن يكون «صهيونياً فحسب»؛ مشيراً بوضوح إلى أنَّ «قيادة منظمة التحرير» خُدعت ولم تكن تريد المقاومة لأنها كانت تتوقع أنَّ الاجتياح سيكون لأربعين كيلومتراً فقط، بحسب الاتفاق العربي والدولي مع الصهاينة. قاومت المقاومة الفلسطينية بعنف في منطقة الدامور، بحسب كلام الضباط الصهاينة أنفسهم. كما نقل مصوّر جريدة «السفير» يوسف بدر الدين أنّ المقاومة قتلت أحد قادة الغزاة ياكوتينيل آدم، وهو نائب رئيس الأركان الصهيوني، فضلاً عن تدمير عدد كبير من الدبابات وفق ما أظهره الوثائقي بالمشاهد.
بعد بداية الاجتياح بخمسة أيامٍ، أي في 9 حزيران، وتحديداً في مثلث خلدة (كانت المنطقة تدعى آنذاك بمدينة الزهراء أو ما تعرف اليوم باسم بمنطقة الجامعة الإسلامية)، كانت المعركة الأقسى والأقوى التي أظهرت أنه لا تزال هناك مقاومة في لبنان. جمعت المقاومة في تلك المعركة أطيافاً واسعة من الأحزاب اللبنانية الوطنية والاسلامية، الجيش السوري، والمقاومة الفلسطينية، فضلاً عن «مكتب الشهيد مطهري» كما يشير الشيخ جمال كنعان أحد المشاركين في المعركة، وهي نواة من «حزب الله». وكان على رأسهم -بحسب الشيخ- الشهداء مصطفى بدر الدين (يشير غير مصدر إلى أنه أصيب بجراحٍ بليغة في تلك المعركة)، ومحمد سرحان، ومحمد حجازي وأبو حسن سلامة (علي ديب). شارك الجيش السوري من خلال قوته النارية الكبيرة خصوصاً من المرتفعات المقابلة لمنطقة خلدة. يشرح الوثائقي تفاصيل المعركة خطوة بخطوة، وهذا يحسبُ له كثيراً، ويحكي كيف قاومت القوى المشتركة في ذلك المثلّث قوة صهيونية غازية مسلحة بأحدث الأسلحة، فيما كانت هي مسلحة بأسلحة فردية وبعض الدبابات (كتيبة للجيش السوري) قليلة العدد والعتاد والامكانيات. كانت المعركة قاسية. يشرح الشيخ كنعان كيف أن «الزفت رأيته بأم العين يحترق». ويشرح قبلان قبلان (نائب في البرلمان اللبناني ومسؤول في «حركة أمل»)، أحمد مرعي (أحد مسؤولي العمل العسكري في الاتحاد الاشتراكي العربي) وعلي عمّار (نائب في البرلمان اللبناني، حزب الله) تفاصيل ما كان يحدث على الأرض بحكم قربهم من العمليات أو مشاركتهم فيها بشكلٍ مباشر. كانت معركةً غير متوازنة بكل ما للكلمة من المعنى: لذلك كان السقوط متوقعاً على الرغم من كل البطولات الفردية، إذ يكفي الإشارة إلى عدد الآليات الصهيونية الكثيرة المدمّرة. وهو ما أشار إليه جورج حاوي، ولكنه أيضاً أشار إلى أن «الصهيوني قاتل بكل تقنياته» في مواجهة شجاعة بشرية، حتى أنهم في لحظةٍ ما استطاعوا ايقاف الزحف الصهيوني وسيطروا على ملالةٍ صهيونية وأخذوها ضمن «غنائم الحرب».
يحسب للوثائقي العمل الجاد والبحث الكثيف الذي أجرته هدى رحمة، إذ بدا أنها تعرف عماذا تبحث، وما الذي تريد قوله. وقد استفادت من شخصيات موجودة وراحلة واسعة الطيف من مختلف الفصائل والأحزاب التي حاربت العدو الصهيوني وقتها: الشيوعي، القومي، أمل، نواة حزب الله، الاتحاد الاشتراكي، المرابطون، وحتى مقاومين ومصورين من تلك المرحلة. أيضاً في العمل، تفاصيل جميلة مثل الصوت المتقن للرواي محمد بيضون. في الوقت نفسه، يعاب عليه مثلاً استخدامه لبعض الوثائقيات من التلفزيون العبري من دون الإشارة إلى مصدرها، أو من أين أتت ومن هو المتحدّث، فهل المصوّر هو جيش الإحتلال أو مصوّر خاص؟ . في جانبٍ آخر، يحضر النقاش الأزلي: هل القتلةُ الصهاينة بشر؟ هل القاتل بشريٌ أيضاً؟ طبعاً هنا النقاش لا بالمعنى الفعلي، بل بالمعنى المجازي الفلسفي: إذ يتحدّث -في الوثائقي- مثلاً غالي هوس وقائد كتيبة مشاة من القوات الغازية، عن «كيف استطعنا القيام بتلك العملية» متحدّثاً عن أنه سأل نفسه كيف يقتل أطفالاً -أو يوجه نيرانه نحوهم- وهم في عمر ابنته الجالسة في المنزل. يضع الوثائقي التساءل قيد النقاش، وإن ليس بالطريقة التي تجب، إذ يعطيهم الفرصة لتبرير الأمر كما أنه «حقهم» في فعل ذلك، فيستمع المشاهد لما يقولونه باعتباره «حقهم في الرد». .
«1982» وثائقي يستحق المشاهدة بالتأكيد، فيه الكثير من الجهد، ولكن لايمكن الحكم بشكل كلي قبل مشاهدة جميع الأجزاء المتبقية التي ستعرض تباعاً.
--
* 1982: كل يوم ثلاثاء الساعة التاسعة مساء بتوقيت بيروت على «الميادين»
تعليقات: