الاقتحام مغامرة والاستنزاف تآكل... فماذا عن «الخيار الثالث»؟
يمكن القول ان خطاب الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله لمناسبة عيد المقاومة والتحرير شكل نقطة تحول في مسار التعامل مع أزمة نهر البارد. وبعيدا عن بعض «الآثار الجانبية» للخطاب والمتمثلة بردود فعل الموالين عليه والتي اتسم جزء منها بـ«العنف اللفظي»، إلا أنه استطاع في واقع الامر ان يرسم طريقا ثالثة الى المخيم، غير الحسم العسكري او المساومة السياسية.
وبهذا المعنى، لم تنجح محاولات إغراق كلام «السيد» في نهر البارد، بذريعة انه قدم طوق نجاة لمنظمة «فتح الاسلام»، وبدا ان خزان هذا المنطق يفتقر الى «الوقود» العقلاني والسياسي الذي يتيح له ان يستمر طويلا. وهكذا فإن «السيد» الذي يجيد السباحة نجح في عبور النهر وبناء جسر بين ضفتيه اللبنانية والفلسطينية على قاعدة ان الجيش خط أحمر والمخيم ـ لا «فتح الاسلام» ـ خط أحمر.
كان نصر الله يتوقع على أي حال ان يثير كلامه انتقادات في صفوف فريق الموالاة، وهو أعطى إشارة من هذا القبيل خلال إلقاء خطابه. لكن ما فاجأه ان الامر تجاوز حدود معارضة مواقفه الى تحويرها المتعمد بعدما خضعت لعملية إعادة تفكيك وتركيب، في محاولة لتحريف مقاصدها، ما استدعى ردا من «المصدر القيادي» في حزب الله، وهي من المرات القليلة التي يصدر فيها رد رسمي من الحزب على تعليقات تتناول مواقف أمينه العام، وفي ذلك دلالة على ان الموضوع لا يحتمل «المزاح».
وبعد أيام قليلة من خطاب «السيد»، تبين ـ برغم العاصفة التي أثيرت حوله ـ انه فرض ذاته عنصرا أساسيا من عناصر الاستقطاب الداخلي ووفر مظلة لـ«الخيار الثالث» الذي بدأ يكثر أنصاره تدريجيا، حتى في صفوف فريق 14 آذار، حيث راحت تتعالى أصوات تدعو الى محاسبة قتلة شهداء الجيش اللبناني وإنما من دون اللجوء الى الحسم العسكري بمعناه الواسع، بعدما كانت النبرة أكثر حدة في الايام الاولى للأزمة.
ولعل أهم ما ينطوي عليه كلام نصر الله انه أتاح للجيش فرصة ان يخرج من الزاوية التي أراد له البعض ان يحشر ذاته فيها. ما قبل خطاب «السيد» كان الجيش يواجه ضغوطا من نوع واحد، هي تلك التي تحثه على «الحسم العسكري» السريع، أما بعد الخطاب فقد اصبح بمقدور المؤسسة العسكرية ان تتسلح بطرح حزب الله لتحقيق شيء من التوازن مع الطروحات الاخرى وصولا الى التروي في استخدام «المبضع» على أساس ان الجيش يمثل الارادة الوطنية الجامعة وأي قرار يتخذه يجب ان يحظى بتغطية هذه الارادة الوفاقية، وهذا ما ليس متحققا الآن بشأن اعتماد «الخيار العسكري» في التعامل مع قضية نهر البارد. وفي هذا الاطار، يقول أحد كبار الضباط السابقين انه ينصح انطلاقا من خبرته وتجربته باعتماد «الحل المركب» ذي الطبيعة الأمنية والسياسية والمخابراتية لمعالجة حالة «فتح الاسلام» لأن العقلانية تقول بتجنب اقتحام المخيم كونه مغامرة، وبتفادي الاستنزاف كونه تآكلا.
وأبعد من لبنان، حيث «المحرقة» تأكل الاخضر واليابس، هناك من يرى ان خطاب الامين العام لحزب الله تمكن من تحقيق اختراق هام على مستوى الشارع العربي والاسلامي، بعدما كان قد طرأ تبدل سلبي ـ نوعا ما ـ على مزاجه حيال الحزب في أعقاب بلوغ الازمة الداخلية ذروتها وترويج الموالاة لفكرة ان هناك خلفيات مذهبية تتحكم بانتقال الحزب الى المعارضة في مواجهة رئيس الحكومة السني، ثم أتى إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين وسلوك عدد من القوى الشيعية في العراق ليتركا تداعيات إضافية على موقع الحزب في العالمين العربي والاسلامي.
ويعتبر أصحاب هذا الرأي ان سلوك نصر الله في مقاربة ملف الاحداث الاخيرة أعطى قوة دفع جديدة للحزب. ويروى ان شعبية «السيد» بعد خطابه الاخير اكتسبت زخما كبيرا في المخيمات، على سبيل المثال، وكل ذلك أفضى الى سحب «عصب» الفتنة، ببعديها الداخلي والخارجي، بعدما نجح نصر الله في منع استدراجه الى اصطفاف مذهبي يضعه في مواجهة «السلفيين السنة»، ليس فقط في لبنان وإنما في المنطقة، مع ما كان سيعنيه ذلك من تداعيات خطيرة على مستوى العلاقة بين الشيعة والسنة.
وما ساعد على تظهير هذه الصورة ـ وفقا للقراءة إياها ـ ان الفريق الحاكم بدا كجزء من «الاجندة الاميركية» التي تستهدف المخيمات الفلسطينية والحركات الاسلامية السلفية، وهو ما يُفترض ان يكون قد أدى الى تراجع التعاطف السني في العالم العربي مع «تيار المستقبل» الذي كان يُنظر اليه حتى الامس القريب على ان وضعه في لبنان شبيه بوضع الحالة السنية في العراق، أقله لجهة انه يواجه ضغوط حزب الله الشيعي ويتصدى لطموحاته «غير المشروعة»، فجاء سلوك هذا التيار «الحاد» تجاه أزمة مخيم نهر البارد ليعطي انطباعا لدى المواطن العربي العادي ـ الذي يتعاطف «فطريا» مع الحركات الاسلامية المعادية للولايات المتحدة الاميركية ـ بأن الرئيس فؤاد السنيورة والنائب سعد الحريري باتا أقرب الى الحسابات الاميركية في طريقة تعاطيهما مع «الظاهرة السلفية».
الوجه الآخر لهذا الموضوع ان حزب الله الذي صوّره خصومه خلال الفترة الماضية بأنه أراد ان يوظف انتصاره على إسرائيل في حرب تموز لتعزيز موقع الشيعة اللبنانيين في السلطة على حساب السّنة، إنما ظهر إزاء القضية المستجدة بانه أحرص من غيره على «أهل السّنة» من أبناء المخيمات، وخصوصا مخيم نهر البارد، عندما نصح بتفادي اللجوء الى «الحسم العسكري» على الرغم من ان منظمة «فتح الاسلام» هي نقيضه العقائدي، وربما الوجودي أيضا، بالنظر الى طبيعتها التكفيرية، وقد كانت الفرصة مهيأة أمامه للدفع في اتجاه التخلص منها لو شاء تغليب حساباته الخاصة على ما عداها من الاعتبارات، لكنه لم يفعل.
تعليقات: