خطة الهيئات الاقتصاديّة: تسليم البلد للمصارف الزومبي أو الفوضى!

خطة الهيئات الاقتصاديّة ورقة النعوة الأخيرة لمسار الاتفاق مع صندوق النقد
خطة الهيئات الاقتصاديّة ورقة النعوة الأخيرة لمسار الاتفاق مع صندوق النقد


تعثّر مسار الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، بعد أن تعذّر التقدّم بتنفيذ أي شرط من الشروط الثمانية الواردة في التفاهم المعقود معه على مستوى الموظّفين، لاعتبارات ارتبطت جميعها بالمصالح المتشابكة ما بين المنظومة السياسيّة والنخبة الماليّة. وخطّة التعافي المالي نفسها، التي تم الاتفاق عليها مع الصندوق، باتت في خبر كان، بعد أن تراجع عنها رئيس الحكومة من دون أن يقدّم بديلاً، ليصبح من المؤكّد أن جمعيّة المصارف تمكّنت من تحقيق حلمها بوأد هذه الخطّة في مهدها. إنّه السقوط الحر إذًا، مدفوعًا برغبة كبار القوم في حماية امتيازاتهم، التي لم تنسجم حتّى اللحظة مع أبسط شروط التصحيح المالي البديهيّة، الواردة في خطّة التعافي بطلب من صندوق النقد، كتحميل الرساميل المصرفيّة نصيبها من الخسائر مثلًا.


خطة الهيئات الاقتصاديّة والابتزاز الصريح

حين ينجح تحالف النخبة الماليّة والمنظومة السياسيّة في التحايل لإسقاط شروط الحل على هذا النحو، تفلت الأمور من عقالها، وتتضاعف كلفة الانهيار على أكثر شرائح المجتمع هشاشةً. هنا بالتحديد، تصبح اللحظة مناسبة جدًا ليقدّم هذا التحالف طرحه، بوصفه المسار الوحيد الذي لن يعرقله الممسكين بقرار البلاد السياسي والمالي. وهنا سيكون علينا الاختيار: القبول بشروطهم، أو الذهاب بعيدًا في الانهيار، والاستمرار بعرقلة الحلول التي يمكن أن تتخطّى المحرّمات التي يكرّسها النموذج الاقتصادي القائم.

إنّه الابتزاز الصريح والمكشوف إذًا.. إذ لا يمكن أن يُفهَم على غير هذا النحو ما قدّمته الهيئات الاقتصاديّة في خطتها الماليّة البديلة يوم أمس (هنا النص الحرفي)، لا من ناحية التوقيت الذي تزامن مع انكشاف تعثّر مساري خطة التعافي الحكوميّة والتفاهم مع صندوق النقد، ولا من ناحية المضمون الهزيل، الذي اقتصر على إعادة تدوير أفكار جمعيّة المصارف بقالب أكثر ركاكة. وخلاصة الخطّة الوليدة يمكن تلخيصها بعبارة واحدة: سلّموا البلد إلى المصارف، أو استمرّوا بالغرق في الفوضى. وفي كل ذلك، يستغرب المرء جرأة الهيئات الاقتصاديّة في طرح هذا النوع من الأفكار البعيدة جدًّا عن أولويّات التصحيح المالي والعدالة الاجتماعيّة، وهو ما لا يمكن تفسيره سوى بغياب من يفاوض أو يناقش في الاتجاه المعاكس على مستوى الدولة اللبنانيّة.


توزيع جديد للخسائر

بدلًا من ضمان كل وديعة إلى حدود تتراوح بين 100 و150 ألف دولار أميركي، كما نصّت أولى صيغ خطّة حكومة ميقاتي، ستتكفّل المصارف حسب خطّة الهيئات الاقتصاديّة بتقسيط أموال كل مودع لغاية 100 ألف دولار، بعد دمج قيمة حساباته الموجودة في مصارف مختلفة. وهذا المبلغ، سيتم سداده على دفعات شهريّة خلال مدّة سبع سنوات، مع دفع ربع المبلغ بالليرة اللبنانيّة وفقًا لسعر الصرف. وهذا الجانب من الخطّة، سيعني حكمًا الخروج من مبدأ "ضمان كل وديعة لأقصى حد" بعد معالجة الخسائر، والعودة إلى مبدأ حبس الودائع على المدى المتوسّط والاعتماد على "التقسيط المريح" وأسعار الصرف الاعتباطيّة المعتمدة لسداد جزء من الدفعات، تمامًا كما يفعل مصرف لبنان حاليًّا من خلال تعاميمه (التعميم 158 مثلًا).

مسؤوليّة المصارف هنا ستقتصر على تأمين مبلغ لا يتجاوز حدود 3 مليار دولار، من خلال عمليّة إعادة الرسملة. وهذا المبلغ يمثّل من الناحية العمليّة كامل قيمة الخسائر التي ستتحمّلها المصارف في عمليّة سداد هذه الودائع، من أصل الخسائر الإجماليّة التي قدّرتها خطّة الحكومة بنحو 73 مليار دولار. أمّا مصرف لبنان، فسيكون عليه تأمين 16 مليار دولار، من السيولة التي يحتاجها لسداد الودائع التي تقل قيمتها عن 100 ألف دولار. وبما أنّ احتياطات مصرف لبنان لن تكفي لتأمين هذه القيمة طبعًا، فمن البديهي أن تكون الهيئات الاقتصاديّة قد استهدفت استعمال احتياطي الذهب في عمليّة سداد هذه الودائع.

السطو على موجودات الدولة

هكذا، ستكون المصارف قد اكتفت بتقديم سيولة لا تتجاوز نسبة 4% من إجمالي الخسائر المصرفيّة، لدفع جزء من كلفة سداد الودائع التي تقل عن 100 ألف دولار، فيما سيتحمّل مصرف لبنان ومخزون الذهب الجزء المتبقي من الكلفة. لكن ماذا عن الودائع التي تتجاوز قيمتها 100 ألف دولار؟

تعود الهيئات الاقتصاديّة لإعادة تدوير فكرة جمعية المصارف الأولى: السيطرة على مؤسسات الدولة العامّة، من أوجيرو إلى المرافئ (بالجمع!) والمطار وشركة طيران الشرق الأوسط والريجي والكازينو.. وصولًا إلى عائدات النفط والغاز إذا وجدت! في الشكل، ستبقى المؤسسات ملك الدولة اللبنانيّة، لكن بعد رهنها لفترات تتراوح بين 10 و12 سنة، ليتم تخصيص عائداتها لإطفاء الخسائر المصرفيّة وسداد الودائع التي تتخطى قيمتها 100 ألف دولار. وبهذه الطريقة، سيتنفّس المجتمع بأسره لمدّة عقد من الزمن، لسداد رسوم الخدمات العامّة التي تريد منها الهيئات الاقتصاديّة إطفاء الخسائر المصرفيّة.

الطريف في الموضوع، هو أنّ الهيئات الاقتصاديّة تتوقّع من هذه العمليّة مردوداً لا يقل عن 30 مليار دولار، لسداد الأموال المودعين، في حين أن قيمة كامل أصول الدولة لا يمكن أن تتخطّى 11.6 مليار دولار خلال انهيار كالذي يعيشه لبنان اليوم. بمعنى آخر، لا يوجد أي واقعيّة في ترقّب إنتاج هذه الأصول كل هذه العوائد على مدى عقد من الزمن، بما يكفي لرد أموال الودائع على النحو الذي تبشّر به الهيئات الاقتصاديّة.

وبذلك، تكون النتيجة العمليّة لهذا المسار هي رهن الأصول العامّة، وحرمان الدولة من أي عوائد يمكن أن تنتج من رسوم استعمال هذه الأصول، مقابل تأبيد وضعيّة "مصارف الزومبي" والحفاظ على كتلة الخسائر على مدى العقد المقبل، من دون حتّى سداد أموال المودعين.

ومن البديهي أن يكون هذا المسار بحد ذاته رصاصة رحمة في رأس أي أمل بدخول مسار التصحيح المالي، طالما أن هذه الخطة لا تؤمّن التخلّص من كتلة خسائر النظام المالي، ولا تحقق إعادة الانتظام في العمل المصرفي. بل تستمر على المدى المتوسّط بفرض القيود على سحوبات الودائع الصغيرة والمتوسّطة (تحت 100 ألف دولار)، وتؤجّل التعامل مع الخسائر التي تحول دون سداد الودائع الكبيرة (فوق 100 ألف دولار). وهذا النوع من الخطط، لا يبشّر حتمًا باستعادة الثقة بالنظام المصرفي، ولا باستعادة قدرته على القيام بأبسط الخدمات المصرفيّة البديهيّة، لكنّه في المقابل يحمي أصحاب المصارف من تحمّل نصيبهم من الخسائر، التي كان من المفترض أن تتحمّلها رساميلهم.


التسليم بتشوّهات النظام المصرفي

في خلاصة الأمر، ما قدّمته الهيئات الاقتصاديّة لا يعدو كونه مجرّد مقترح للتسليم بالتشوهات القائمة في بنية النظام المصرفي، وبالأثمان التي يدفعها المجتمع بكامله مقابل الحفاظ على هذه التشوّهات. ولهذا السبب، لا يوجد ما يمكن أن تراهن عليه الهيئات الاقتصاديّة لفرض رؤية من هذا النوع، إلّا العرقلة المتعمّدة التي تواجهها كل مسارات الحل الفعلي، والتي لا تتناسب مع المصالح التي تدافع عنها جمعيّة المصارف.

أمّا أطرف ما في المؤتمر الصحافي للهيئات الاقتصاديّة، فهو اعتبارها أن خطّتها تتناسب مع شروط صندوق النقد، في الوقت التي ستمثّل فيه مقترحات الخطّة –إذا تم تبنيها رسميًّا- ورقة النعوة الأخيرة لمسار الاتفاق مع الصندوق. فالهيئات الاقتصاديّة نفسها أكثر من يعلم أن جميع البنود التي رفضتها المصارف في خطّة التعافي المالي، وخصوصًا تلك التي تحول دون استخدام المال العالم لمعالجة خسائر المصارف، لم تأت إلًا بطلبات مباشرة من بعثة صندوق النقد الدولي.

تعليقات: