هرباً من الصقيع والإفلاس: نزوح جماعي لأهالي بعلبك - الهرمل

حياة المواطنين شتاءً في خطر، فهم مهددون بالموت تجمدًا من الصقيع (Getty)
حياة المواطنين شتاءً في خطر، فهم مهددون بالموت تجمدًا من الصقيع (Getty)


"الربع الخالي" هي الصفة السّاخرة التّي بات يطلقها بعض البقاعيين على منطقة بعلبك- الهرمل. فإلى جانب الحيز الجغرافي المفتوح على البادية السّورية، والذي أكسب المنطقة مناخًا شبه صحروايّ، فحمّل المزحة بعضًا من الواقعية، تُرك لمصيرهم ما يتجاوز المئة وثمانين ألف مواطن، موزعين على 63 قرية وبلدة من هذه المحافظة المنكوبة، والمزدحمة بالاشتباكات الأمنية الدورية والأزمات المتفاقمة، منذ عقود في صحراء التهميش والتحامّل.

وبات البقاعيون اليوم في حالة من التململ والتخوف المستمر، محاطين بخطر أمني داهم وانهيار اقتصادي مستفحل، أرخى بوطأته على كواهلهم المتهالكة أصلاً، فضلاً عن تقاعس دولتهم عن أداء واجباتها تجاههم كمواطنين، متلافيةً الخوض جديًا في عمق الأزمات المتلاحقة، أو طرح خطط إنقاذية بنيوية، أو على الأقلّ كفّ يدّ الأمر الواقع المستحكمة بالمنطقة من عشائر وميلشيات مسلّحة.


حركة نزوح مستجدة

هذا الواقع سحبهم مرغمين نحو دوامة من البحث الدؤوب عن حلول ترقيعية أو اعتماد بدائل ملتوية للحؤول دون الموت عاجزين ومفقرين، فيما اتجه رهط آخر منهم للنزوح إلى ضواحي العاصمة بيروت التّي تبعد عنهم بالحدّ الأدنى 85 كيلومترًا، على وقع تأرجح سعر صرف الدولار وصفيحة البنزين والمازوت، بحثًا عن أدنى مقومات الحياة المسلوبة منهم. وعلى خلاف كل حركات النزوح من الأرياف للمدن في العالم، والتّي عادةً ما تكون بدواعٍ اقتصاديّة وإنمائية بحتة، معطوفة على فرص مهنية وتعليمية أفضل، ونمط حياة مدني، لا ينزح البقاعيون اليوم سوى طمعًا بربطة خبز بسعرٍ معقول، وبكهرباء لساعتين ليلاً، وجامعة ومشفى حكومي.

وللوهلة الأولى، قد تبدو مطالب البقاعيين متواضعة مقارنةً لوضعهم المأزوم، لكنها فعلاً باتت تُشكل شغلهم الشّاغل والمتحكم بأسلوب حياتهم ونمط معيشتهم. فواقع الأزمات المستفحلة والتهميش الممنهج ومشاهد مهانتهم الاقتصادية والمعيشية التّي تجتاح يومياتهم: من طوابير الخبز والمحروقات، إلى قلة أوقات التغذية الكهربائية والمنعدمة أحيانًا، فضلًا عن انقطاع المياه والأزمة الزراعية والأمراض المستشرية بسبب سوء التغذية والتلوث، يُضاف إليها التخوف المستمر من الموت بسبب الصقيع شتاءً، لعجز معظم الأسر البقاعية عن تأمين المازوت والحطب، وعدم توافر فرص عمل، ناهيك عن غياب الخدمات التعليمية والصحية الحكومية.. كلها كانت المسبب الرئيسي للنزيف السّكاني المستجد من منطقة بعلبك- الهرمل نحو "أحزمة البؤس" في بيروت وضواحيها، فضلاً عن قرى وبلدات جبل لبنان والجنوب. وفي حين راجت الأقاويل عن حركة نزوح عكسية من المدن للأرياف بداية الأزمة، يعود سكان البقاع الشمالي أدراجهم نحو عشوائيات ضاحية بيروت الجنوبية، هربًا من الصقيع والعتمة والجوع والمرض.

فالهرمل وحدها نزفت حوالى 50% من سكانها في آخر سنتين، حسب ما أشارت مصادر "المدن" في إدارة الإحصاء المركزي، وغالبيتهم من الشباب والشابات الذين نزحوا إلى بيروت واستقروا في سكن جامعيّ أو شقق مفروشة، للتعلم في الجامعة اللبنانية أو البحث عن فرصة عمل.

وتبعات هذه الحركة المستجدة والمتضخمة من نزوح البقاعيين نحو العاصمة وبعض بلدات الجبل، لا تقتصر فعليًا على التغيرات الديموغرافية العشوائية والدائمة، أو حتّى على كونها عنصر محفز لوتيرة الانهيار الاجتماعي والاقتصادي، فضلاً عن الأعباء المضافة على البلديات. هي بالواقع تجلٍّ شاخص للنكبة الاجتماعية والاقتصادية التّي تحيط بسكان المنطقة شيبًا وشبابًا، وعنصر فاعل في اضمحلال قطاع الزراعة المهمش أساسًا، والذي يشكل البقاعيون عصبه الأساسي.


ظروف تعجيزية

يقول محمد ز. (45 سنة) وهو عريف أول في الجيش اللبناني، وقد انتقل مؤخرًا من مسكنه في الهرمل، واستأجر لعائلته شقة في حيّ السّلم، بعد أن كان يعاني من أزمات اقتصادية ومشكلة في التنقل أسبوعيًا من وإلى بيروت، لأداء خدمته، فكان يضطر في الشهور السّابقة لدفع مبلغ يتجاوز الثلاثة ملايين ليرة في النقل العام: "صرت أستدين من أقاربي وأخوتي وحتّى أصدقائي للذهاب إلى وظيفتي، فمعاشي أساسًا لا يكفي لدفع فاتورة اشتراك الكهرباء. كلفة غلاء المعيشة، فضلاً عن النقل العام، وعدم مقدرتي على تسجيل أولادي في مدرسة خاصة، اضطرتني للانتقال وعائلتي إلى بيروت، لعلي أجد فرصة عمل بعد دوام خدمتي، كما ولتسجيل أولادي في مدارس رسمية، ولتوفير تكاليف التدفئة شتاءً بسبب أسعارها الجنونية".

ما يميز العمالة في محافظة بعلبك- الهرمل أنها بغالبيتها في وظائف الدولة، فواقع التهميش الممنهج والإنماء غير المتوازن، وطرديًا إنعدام فرص التمدد الثقافي والاجتماعي الذي شهدته المحافظات اللبنانية الأخرى، لم يُتح لشبان المنطقة سوى حلم بوظيفة حكومية تؤمن معيشتهم، تمثلت غالبًا بالتطوع في المؤسسة العسكرية. أو لشاباتها الحلم بدراسة الاختصاصات المهنية كالتمريض وغيرها، وبنسب قليلة جدًا. وتبعًا للانهيار المؤسساتي الحاصل، وفقدان رواتب القطاع العام قيمتها، بات غالبية البقاعيين مضطرين لشغل وظيفتين.


تبريرات وشلل مؤسساتي

غياب السّلطات الرسمية غيابًا تامًا، واكتفائها بمحاولاتها العبثية لتجميل الواقع بحلولها الترقيعية، والكثير من الوعود، ساهم طرديًا بانتفاء أي فرصة لتحسين الظروف الحالية أو حتّى التخفيف من تبعاتها. وقد يبدو هذا نتيجة حتمية جامعة للسّيناريوهات المحتملة التّي انبثقت بُعيد إعلان نتائج الانتخابات في محافظة بعلبك- الهرمل. لكن تبعاتها باتت شاخصة وظاهرة للعيان، من شرخ طبقي واسع وصولاً لنقمة المفقرين على حزب الله المستحكم بالمنطقة، الذي لم يغفل عن تدعيم مداميك هيمنته عبر مدّ مناصريه ومتفرغيه وعناصره. أما مناصروه الموسميون والذين يتذكرهم بُعيد كل انتخابات، فصاروا في حالة تبرم واحتجاج.

في حديثه مع " المدن" يُشير محافظ بعلبك- الهرمل بشير خضر، إلى واقع الأزمة المعيشية والتخوف من انهيار إضافي على أبواب فصل الشتاء العتيد إذ يقول: "نعاني في المحافظة من شلل وعجز عن إتمام مهمامنا وواجباتنا تجاه المواطنين. فضعف الإمكانيات المادية وغياب أجهزة المراقبة والمحاسبة من أمن وقضاء، قد أسهما في الفوضى الحاصلة. إذ أن انقطاع الكهرباء وغلاء المحروقات والأزمة المعيشة طالت حتّى الإدارات الرسمية المولجة بتسيير أمور المواطنين وحمايتهم، ووصلت حدّ إقفال الإدارات شتاءً بسبب هذه الأزمة التي تطال الجميع، لكنها مستفحلة في محافظة بعلبك- الهرمل، كما وإن أعباء اللاجئين السّوريين جعلتنا مستنزفين من الموارد الأساسية كالكهرباء الذين يستهلكون منها حوالي 50% كما الخبز وغيره..". وأصرّ في هذا الإطار أن لا تعديات قد وثقت بحق أي من اللاجئين السّوريين. ويعتقد خضر أن المواطنين يتجهون للنزوح من قراهم إلى بيروت للبحث عن فرص عمل، وتسجيل أولادهم في الجامعات والمدارس. وقد تفاقمت حركة النزوح هذه بسبب التخوف من الصقيع الشتوي المقبل، كما هربًا من الظروف المعيشية القاسية.

وأضاف: "حياة المواطنين شتاءً في خطر، فهم مهددون بالموت تجمدًا من الصقيع، وقد سهلت لهم المحافظة وأعطتهم الإذن لتشحيل بعض الأشجار للاستدفاء بها شتاءً، لكن عصابات معينة تستغل وضع المواطنين والأذون المتاحة لهم، وتقوم بافتعال حرائق لمراكمة الثروات من بيع الحطب والفحم. والمحافظة تعمل على إيقاف هذه العصابات وبالتالي محاسبتها". كما وذكر أن المدارس مهددة بالإقفال التام شتاءً بسبب انقطاع الكرباء وغلاء سعر المازوت والغاز للتدفئة. وأكدّ أن "جيلاً بأكمله مهدد بوقف تعليمه بسبب الأزمة".


سوق عقارات متضخم

نتيجة هذا النزوح الجماعي، يشهد اليوم سوق العقارات في الضاحية الجنوبية وبعض المناطق من جبل لبنان وبعض قرى الجنوب، تضخمًا في الطلب على الإيجارات، وبالتالي تضخمًا في أسعار الشقق التّي كانت إيجاراتها قبل الأزمة لا تتجاوز 500 ألف ليرة، وباتت اليوم لا تقل عن المئتي دولار أميركي، أي حوالى سبعة ملايين ليرة وفق سعر صرف السّوق السّوداء. هذا التضخم أسهم طرديًا باتساع أحزمة البؤس التّي استبشرت البلديات سابقًا بتقلصها، نتيجة النزوح العكسي الذي أتى كردّ فعل متخبط للأسر هربًا من شبح الانهيار الاقتصادي نحو الأرياف.

ويُشير أحد السماسرة في محيط الجامعة اللبنانية (حيّ السّلم وصحراء الشويفات والليلكي وبرج البراجنة) في حديثه مع " المدن"، أنه تلقى في الأسبوع الماضي حوالى الثلاثين اتصالاً من أُسر بقاعية تبحث عن شقق لاستئجارها، وأكدّ أن إيجارات الشقق في منطقته تصلّ في الحدّ الأدنى للمئة وخمسين دولارًا إن توافرت، أما في حارة حريك وأوتستراد هادي نصرالله ومنطقة السانت تريز، فتتخطى الخمسمئة دولار لتصل لعتبة الألف دولار. فمعظم المؤجرين يعمدون لدولرة إيجاراتهم لضمان مصدر دخل ثابت لهم، وآخرون يطمعون بالفريش دولار الذي يدفعه المتفرغون في حزب الله. أما موظفو القطاع العام وخصوصاً الجيش والقوى الأمنية فيتفادون تأجيرهم بسبب التخوف من عدم مقدرتهم عن دفع الإيجار.

وأضاف: "معظم هذه العائلات تبحث عن شقق قريبة من الجامعة اللبنانية أو المدارس الحكومية والأسواق الشعبية، فيما تستغني بغالبيتها عن خدمة اشتراك الكهرباء لأسعارها الضخمة وبالدولار، والتّي بأفضل الحالات تكلفهم حوالى الخمسين دولاراً، وتكتفي بإضاءة شققها الجديدة بمصابيح الليد التّي تعمل على البطاريات".

يبدو أن "خزان الدم" المزعوم بات ينضب من ساكنيه، والبقاع الشمالي والذي يشكل أكبر محافظات لبنان يضمر لصالح قوى أمر واقع أعدمت أي محاولة للتغيير وتحسين ظروف السّكان المفقرين، واليوم ينسحق سكان بعلبك-الهرمل تحت عجلة السّلطة الفاسدة التّي لم تعبأ قط بمطالبهم، بل همشت ميزات منطقتهم الطبيعية والزراعية. وباتت معالجة شؤون البقاعيين بحلول سطحية وترقيعية مصدرًا لتبرم السكان الذين يضطرون لترك منازلهم وقراهم للبحث عن ظروف حياة أفضل، هاربين من الصقيع والجوع والمرض.

تعليقات: