كل واحد يريد أن يرسم نهاية الآخر بيده (ريشار سمور)
هل وصل ميشال عون ونبيه برّي إلى صراع الأمتار الأخيرة؟ لا شيء مؤكداً. الصراع مثقل تاريخياً، وقابل لأن يستمرّ في مرحلة ما بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية. يشمل التصارع بينهما مجالات مختلفة، تطال كل الاستحقاقات والمؤسسات، وآخرها حالياً معركة تشكيل الحكومة والاستحقاق الرئاسي المقبل. الصراع بينهما لا يمكن أن يجد طريقه إلى الحلّ. حتى في حالات المهادنة التي يصلان إليها، يكون كل واحد منهما متربصاً بالآخر.
حتى النهاية
معركة بدأت بين الرجلين في كيفية بروز دورهما السياسي واستمراريته، ولم تنته، بل مستمرة إلى أن تأتي لحظة النهاية السياسية لكل منهما. كل واحد يريد أن يرسم نهاية الآخر بيده. إنها معارك منذ البداية بهدف رسم النهاية. كل الأسلحة فيها مباحة، وانعكاساتها خطرة جداً على البلد وتركيبته وتوازناته. فالرجلان من مدرستين مختلفتين كلياً.
الأول، رجل عسكري لديه نزعة ديكتاتورية، يعرف جداً كيفية انتهاز الفرص أو اعتماد البراغماتية لتحقيق ما يريد، حتى ولو دخل في تفاهم مع خصومه يبقى في حالة هجوم عليهم. أما الثاني، أي برّي، فهو كائن سياسي مشبّع بالدهاء، براغماتي إلى أقصى الحدود، بحال دخل في تسوية مع خصومه يحافظ عليها ولا يستمر في معاركته. يوم انتخب ميشال عون رئيساً للجمهورية أعلن نبيه برّي "الجهاد الأكبر". كان صريحاً مع عون بأنه لن ينتخبه. ولم يخف موقفه المعارض بشدّة. أما ميشال عون، فما إن وصل إلى بعبدا لطالما ردد في أوساطه إن برّي لن يجعله يحكم.
عناد عون وإصرار برّي
لهذه المعركة الطاحنة حكاية طويلة، تبدأ من الاختلاف في التوجهات بين الطرفين. يحمل ميشال عون حلم إعادة هيمنة المارونية السياسية بكل صيغتها القديمة، وبكل خيالاتها المستندة على الماضي في توصيف لبنان الماروني. على الرغم من أن كل سياساته أدت إلى إظهار الوجه المدمّر للبنان الماروني، وليس الوجه المشرق والجذاب، حسب ما تقول مصادر قريبة من رئيس المجلس، وتعتبر أن عون لم يقتنع يوماً بما يسمى وحدة لبنان، إلا وفق ما يتلاقى مع مصلحته، وعندما تفترق وحدة البلد مع مصلحته لا مشكلة لديه بالذهاب إلى خيارات انتحارية. أما نبيه برّي فهو رمز "النهوض" الشيعي واقتحام الشيعة للكيان اللبناني ورغبتهم الدفينة بتعويض هامشيتهم التاريخية لأن يكونوا هم متن لبنان، البعيد عن لبنان الماروني. هذا الاختلاف يفسّر شدّة عناد ميشال عون مقابل شدّة إصرار نبيه بري، وتصادمهما الذي يستحيل تجنّبه.
لهذا الصراع خلفية شبه أيديولوجية، ولدى برّي ربما أكثر من حزب الله، لأن مشروع برّي هو لبنان الشيعي بالمعنى السياسي أو وفق الطموح الشيعي الذي يقوم على أنقاض لبنان الماروني، أما نصر الله فمشروعه خارج لبنان، ويستخدم البلد وسيلة ومنصة وقاعدة انطلاق لمشاريع أخرى، فيما عون يجد نفسه بمواجهة برّي في الدولة، فنصرالله سلّفه الكثير ولا تعنيه هذه "التفاصيل"، وكأنه يقول للعونيين خذوا ما شئتم من مناصب ومكاسب سياسية في الدولة مقابل توفير الغطاء السياسي للمشاريع الخارجية.
"الطائفة القائدة"
وجود برّي ودوره، يشكّل نقطة الخلاف الأساسية بين حزب الله والتيار الوطني الحرّ. منذ إبرام التحالف بين الطرفين استخدمت عبارة "حليف حليفي" لتوصيف العلاقة بين برّي وعون. ولا يمكن للحزب أن يدخل في مفاضلة بين الطرفين. فهو بحاجة إليهما معاً، ولا يمكنه إبراز أي اختلاف أو شرخ داخل البيئة الشيعية لأن ذلك سيضعفه، ولا يمكنه خسارة التحالف مع التيار الوطني الحرّ لأنه سيصبح معزولاً.
يتهم العونيون برّي بأنه يريد استضعاف المسيحيين، ولا يريد الاعتراف بوجود جهة قوية عملت على استعادة دورهم وصلاحياتهم. يعتبرون أن الرجل يريد ضمناً إعطاء الموارنة حجمهم الطبيعي كطائفة من الناحية العددية، ويريد أيضاً إعطاء السنّة حجمهم الطبيعي بما يتيح للشيعة أن يكونوا "الطائفة القائدة". ربما لذلك اختار برّي عون خصماً مثالياً لضرب "أوهام المارونية السياسية". بينما عون وجد ببري خصماً مثالياً يمكن استهدافه في أكثر من مجال، سواء بشعارات محاربة الفساد، أو بمقارعته لتحصيل مكاسب داخل الدولة، أو من للاستعمال الشعبوي في تعزيز شعبيته المسيحية.
يرتكز خطاب حركة أمل على أن: "كل هذا الخطاب الشعبوي لا انعكاس واقعياً له، فعون يصعّد إلى أقصى الحدود ليحقق مطالبه وليبتز الجميع، وعندما يحقق ما يريد يعود ليتفق مع الجميع ويدخل في اللعبة اللبنانية وتفصيلاتها". كما يتهم أنصار بري عون بأنه يريد الحصول على ما يريده في التعيينات الأساسية في القضاء، الأمن، الإدارة، والتشكيلات الديبلوماسية، ليضمن حصته في الدولة العميقة قبل مغادرته للقصر. وتحقيق شروط سياسية في مرحلة بعد انتهاء ولايته.
انتفاضتان: الشبه والتضاد
في العام 1984 وصل عون إلى قيادة الجيش في عهد الرئيس أمين الجميل، الذي كان قد أبرم اتفاق 17 أيار قبلها بسنة. كان برّي مع وليد جنبلاط يستعدان لإطلاق انتفاضة 6 شباط لإسقاط 17 أيار، ولمواجهة امين الجميل. تلك الانتفاضة تشبه إلى حدّ بعيد الانتفاضة التي قام بها عون سنة 1989. أسست انتفاضة 6 شباط لمرحلة إنهاء عهد أمين الجميل، الذي انطبع بحروب مروعة في الثمانينات. في ذلك الوقت كان عون قائداً للجيش، وهو الذي واجه أيضاً تلك الانتفاضة. عندما وصل الجميل إلى لحظة الخروج من القصر لم يجد خياراً سوى تعيين عون كرئيس للحكومة العسكرية، فهو بذلك أراد الانتقام من خصومه في الطوائف الأخرى، وضرب القوات اللبنانية أيضاً، لان لا أحد قادراً على فعل ذلك سوى عون.
تجربة عون مشابهة جداً لتجربة برّي، فخاض عون انتفاضة حرب التحرير ضد سوريا، كما خاض حرب الإلغاء ضد القوات، وكانت أعنف من انتفاضة 6 شباط. الفارق أن انتفاضة برّي كانت متحالفة مع السوريين. وما أسس للصراع الشخصي أكثر بينهما، هو أن برّي استغل انتفاضته لتعزيز موقعه السياسي، والذي تكرس في اتفاق الطائف ولا يزال مستمراً إلى اليوم رئيساً لمجلس النواب. فيما عون الذي خاض حربين لم ينجح في الوصول إلى رئاسة الجمهورية التي كان يطمح لها، ووجد نفسه في مواجهة اتفاق داخلي وخارجي أدى إلى إخراجه من البلد على مدى 15 سنة. ومنذ عودته كان عون يرفع شعاراً أساسياً، وهو الثأر ممن استفادوا من حقبة الطائف.
معركة كل السلطة
توسع الخلاف بعد الطائف، فكان برّي من أبرز المؤيدين للاتفاق، وهو ذو توجه عروبي. بخلاف عون الذي عارض الطائف، وهو ذو توجه مشرقي أو أقلوي. وهذا ما يجمع عون بحزب الله، التوجه المشرقي. وهما اللذان أعلنا منذ البداية موقفهما الصريح بأنهما ضد اتفاق الطائف. عون رفضه لأنه يقلص صلاحيات المسيحيين ويعطي لبنان بعداً عربياً هو ضده، فيما حزب الله كان في مشروع مختلف كلياً، لا يمكن له أن ينضوي تحت سقف الاتفاق ذات البعد العربي.
عون ومحيطه يعتبرون من الفئات الوسطى، لكنهم أحبطوا بنتيجة الحرب، ولديهم شعور بأنهم خسروا مواقعهم التاريخية. بينما برّي الذي يمثل الشيعة، فمحيطه يمثّل الفئات العامية والشعبية غير الأكاديمية، تمكنوا من الصعود في السلّم التراتبي للمناصب والنيابة والوزارة. وبهذا المعنى، فبعد عودة عون في العام 2005 أراد استعادة المواقع التي خسرها المسيحيون، وهي تعتبر "حق تاريخي" لهم. واعتبر عون أن برّي هو الذي سيطر على هذه المواقع الأساسية. على هذا الأساس خيضت المعركة الانتخابية سنة 2005، والتي عمل فيها برّي بقوة لإنتاج التحالف الرباعي. فأقنع حزب الله بضرورة التحالف مع تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي في مواجهة ميشال عون. فيما بعد عمل عون على إقناع الحزب بالوقوف إلى جانبه في مواجهة برّي لكنه لم يوفق.
في هذه المعركة المستمرة حالياً، يسعى عون إلى فرض شروطه الحكومية، فيما برّي لا يريد منحه أي انتصار أو مكسب. هو صراع يمكن أن يكون صغيراً وضيقاً وبهوامش شخصية، ويمكن أن يكون صراعاً ذات أبعاد سياسية داخلية وخارجية، ويمكن في لحظة معينة أن يستريح لتحلّ مكانه تهدئة او تسوية معينة. إلا أن الثابت في كل الحالات نتيجة واحدة، وهي تحطيم كل ما له علاقة بمؤسسات أو نظام أو دولة.
تعليقات: