كان إقفال المصارف في 21 تشرين الأول 2019 أحد أهم الأحداث في السنوات الثلاثة الماضية، نظراً لنتائج هذه الخطوة في تزخيم الأزمة وبداية إرساء القيود غير الشرعية والاستنسابية على عمليات السحب والتحويل. كان إضراباً ضدّ المجتمع بكامله مدعوماً بقوّة السلطة السياسية، وبحماية من القضاء، وبدعم من نقابة الموظفين... إضراب الأيام الثلاثة الذي ينتهي اليوم، لا يختلف عما سبق، إنما هدفه تقييد المجتمع عن «استيفاء الحقّ بالذات» سواء كان هذا الحقّ مدّخرات أو أجوراً
لم تكن احتجاجات خريف 2019 هي ضربة البداية في الأزمة. سبقتها على مدى أشهر عدّة، قيود غير مرئية مارستها المصارف على الزبائن بحجج مختلفة منها إغراء ومنها ترهيب. إغراء بفوائد مرتفعة لمنع سحب الوديعة، وترهيب بصعوبة التحويل (بعض المصارف استعملت مسائل لها علاقة بتبييض الأموال لمنع تحويل ودائع الزبائن إلى الخارج). ففي تلك الفترة، بدأت التوترات والمشادات تظهر علناً بين المودعين والمصارف، إنما لم تصل إلى مرحلة الدعاوى القضائية، ولم يتحوّل الأمر إلى مشهد عنيف إلا بعد الإقفال الذي نفّذته المصارف في 21 تشرين الأول 2019. كانت خطوة بمثابة إعلان التوقف عن السداد الذي قامت به المصارف بشكل مبطّن في الأشهر السابقة.
مذاك الوقت، اختارت نقابة موظفي المصارف التموضع إلى جانب أصحاب رأس المال. لم تتصرّف باعتبارها نقابة عمالية، إذ أعلن اتحاد نقابات موظفي المصارف، في بيان، تضامنه مع جمعية المصارف، وأيّد قرارها بالإضراب. وفي 10 تشرين الثاني 2019، قرّرت النقابة أن تتصرّف نيابة عن أصحاب المصارف، فأعلنت الإضراب المفتوح احتجاجاً على ما وصفته بـ«مضايقات» يتعرّض لها الموظفون من قبل العملاء. كلما أرادت المصارف الإقفال للضغط على جهة ما، تصرّف اتحاد نقابات الموظفين مبرّراً الأمر بذريعة خوف الموظفين. ولو أن النقابة «أخذت قراراً معاكساً، ربما لم يكن الإضراب قد حصل. أقلّه كانت الذريعة المباشرة قد سحبت» يقول الخبير النقابي غسان صليبي. فبإضرابها أسهمت المصارف في خلق، وفي مضاعفة، نوبات الهلع لدى المودعين وفي الاقتصاد اللبناني ككل، ضاربة عامل «الأمان» وهو أساس علاقتها مع العملاء. عملياً، قرّرت المصارف تأديب الناس الذين كانوا يهابونها طيلة 26 عاماً. وبات الشعور بأن اتحاد نقابات موظفي المصارف هو نقابة جمعية المصارف، ما يثير تساؤل صليبي: «هل انفصال الموظفين إلى هذا الحد عن الناس أحد أسبابه أن حقوقهم كمودعين مؤمّنة؟ هل مهمة اتحاد موظفي المصارف غير معني بمعيشة الناس المسروقة أموالهم؟».
فقدان الثقة بالمصارف تصاعد بمرور الوقت. عبّر المنتفضون عن ذلك في ليلة المصارف الشهيرة، وما سبقها وما تلاها من احتجاجات أمام المصارف، ولم يتوقفوا لحظة عن طلب استرداد ودائعهم سواء برفع الدعاوى، أو لاحقاً باقتحامات المصارف. وبعنجهية معتادة قرّرت المصارف إعلان الإضراب تلو الآخر. وصل الأمر بها في آذار الماضي إلى الإقفال تحدياً للقضاء، على خلفية إصدار القاضية غادة عون سلسلة من الأحكام القاضية بحجز أموال للمصارف التي تمتنع عن تسليم الودائع. كان الأمر بمثابة ابتزاز للقضاء وللمودعين بهدف التفلّت من المساءلة وطلب الحماية في آن. لكن تجرؤ المصارف على هذه الإضرابات المتتالية، لم يكن مدعوماً فقط ببيانات اتحاد نقابات موظفي المصارف. بل كان أيضاً يحمل في مضمونه دفعاً سياسياً - قضائياً حمائياً لها منذ اليوم الأول للأزمة؛ فمع قمع الانتفاضة، انتقلت المواجهة بين المودعين والمصارف، نحو خيار اقتحام المصارف واسترداد الودائع بالقوّة. كانت موجات فردية متباعدة، إلى أن جاء بسام الشيخ حسين ليفتتح موجة جديدة وصلت إلى حدّ اقتحام ثمانية فروع في يومٍ واحد. الردّ من المصارف كان متوقعاً: هناك من يحرّك هؤلاء للضغط على المصارف لتوافق على «شيء ما». هكذا برّرت المصارف تنفيذ إضراب لثلاثة أيام ينتهي اليوم.
هل انفصال الموظفين إلى هذا الحد عن الناس أحد أسبابه أن حقوقهم كمودعين مؤمّنة؟
فجأة، أصبح استيفاء الحقّ بالذات، جنحة تستعمل لتأديب وقمع أولئك الذين ينفّذون عمليات اقتحام للمصارف أو يدرسون خياراً كهذا. ففي عملية اقتحام لأحد المصارف نُفذت أخيراً، تولّى القضاء الادعاء على شابين بجنح استيفاء الحقّ بالذات، وحجز حرية وتهديد موظفين. برأي المحامي علي عبّاس، فإن هذه الجنح لا تنطبق على من «يستردّ وديعته بالقوّة طالما أن القضاء عطّل نفسه عن إحقاق العدل، ولا ينظر بعين الرأفة إلى قضايا المودعين». عملياً، تتم تجزئة العدالة، فتُهمل قضايا تدين المصارف ويتم تكديسها في جوارير العدلية، لكن يتم تحريك الحقّ العام والخاص من الذين يستوفون حقّهم بأنفسهم لتحويلهم إلى عبرة تمنع غيرهم من تنفيذ خطوات مماثلة. القضاء صار في خدمة المصارف!
يأتي ذلك، رغم أن هناك آلاف الدعاوى ضدّ المصارف لاسترداد الودائع، عالقة أمام القضاء منذ بداية الأزمة. وهذا السلوك، هو نموذجي لتشابك المصالح بين القضاء والمصارف. فقد سبق للقضاء أن امتنع عن فتح استنابات قضائية تطاول عمليات تهريب الأموال التي حصلت قبل انتفاضة تشرين.
عموماً، لم تضعف المصارف بل منحتها السلطة السياسية بعد الانهيار قوّة دفع جديدة. امتنعت عن إقرار كافة القوانين التي كانت كفيلة بكبح تحكّمها بالمشهد. اقتراحات قوانين مشوّهة لرفع السرية المصرفية، والـ«الكابيتال كونترول» تفرغ القانونين من مضمونهما. ما سمح للمصارف بالتعاطي كما يحلو لها مع المودعين مدعومة بتعاميم غير دستورية من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. حدّدوا ما يريدونه من سقوفات سحب. ومنحوا المحظيين إمكانية التحويل إلى الخارج. مع الوقت تم خلق ما يسمى بـ«الفريش دولار» فأعطيت المصارف عامل قوة إضافياً للتحكّم باللبنانيين، وإلى جانبه تمرّ عبرها تحويلات تمويل كافة المنظمات غير الحكومية، والمعاملات التجارية للاستيراد. بالتالي المصارف لم تعلن إفلاسها، وترفض إعادة الهيكلة اعتباراً من أن قوّتها زادت ولم تضعف. قوّتها على اللبنانيين الذين تحوّلت مدّخراتهم إلى مدخرات اسمية، وفي الآن عينه تتحكّم بالفريش دولار، ما أعطاها دفعاً أكبر لإعلان الإضرابات. ببساطة هي من تضع قواعد اللعبة برضى السلطة السياسية وتسهيل من القضاء ونقابة الموظفين.
بهذه القوّة الدافعة، تجرأت المصارف على الإضراب وقد تكرّر الأمر مجدداً.
تعليقات: