بقيت عملية أنصارية، التي نفذتها قوّة خاصة في المقاومة، في مثل هذه الأيام من عام 1997، كابوساً يؤرّق العدو لسنوات، ولغزاً لم يتمكن من تفكيك أحجيته حتى الأمس القريب. تحوّلت عملية «أغنية الصفصاف» التي كان من المفترض أن تنفذها وحدة النخبة «شايطيت 13» التابعة للجيش الإسرائيلي، قرب بلدة أنصارية الجنوبية، وكان هدفها الأساسي زرع عبوات ناسفة ضدّ قياديّ في المقاومة، إلى وصمة عار دُمغت على جبين رؤساء الكيان.
اقترب صوت من بعيد. «إنه وطء أقدام جنود النخبة». بعد ليال من الانتظار، وصلوا «مطمئنين» إلى بلدة أنصارية. تغيَّر مسير عناصر «شايطيت 13»، فلم يتمكّن الراصد في المقاومة من إبلاغ القائد الميداني بوصول القوّة البحرية المؤلفة من 16 عنصراً، لكن صوت أقدامهم كان إشارة حاسمة قبل أمتار فاصلة من الكمين. وبالموازاة، يقول الضابط «ساجد» في المقاومة، «سمعنا صوتين في السماء»؛ تحليق مكثّف لطائرات استطلاع معادية، ساعتئذ «تأكّدنا أن عملية العدو قد بدأت».
في التحضير للعملية
بعد ملاحظتها لحركة غير اعتيادية للعدو في المنطقة، عملت المقاومة الإسلامية على المراقبة وجمع المعلومات، ونجحت في خرق بثّ طائرة استطلاع معادية فوق بلدة أنصارية، ما مكّنها من كشف نيّة العدو تنفيذ عملية نوعية باسم «أغنية الصفصاف» في المنطقة. خلال أسابيع، أعدّت المقاومة للعملية المضادة. وبما أن واحدة من الفرضيات كانت استهداف شخصية قيادية، أبقت المقاومة على قيادييها في محيط منطقة الكمين طوال فترة التخطيط للعملية لتضليل العدو، مع تشديد المراقبة عليهم، لكنها لم تقم بإجلائهم من المكان حتى لا تثير انتباهه. اختارت المقاومة المنفذين بدقّة عالية. جرى انتخاب المجموعة بشكل خاص، ووفق مواصفات مشدّدة، ثم أحضرتهم إلى المنطقة لتسكينهم. قامت بتجهيز مستلزمات العملية واحتياجاتها. جرى كل ذلك بسريّة تامّة. على الرغم من كشف المقاومة لعدد من العملاء أثناء التخطيط للكمين، لكنها لم تقم بأي ردّ فعل، ولم تبلّغ عنهم إلا بعد انتهاء العملية كي لا يكشف العدو «الهدية» التي يخفيها له المقاومون. وتحسباً لاحتمالات سير عناصر الفصيل في اتجاهات عدّة، هيّأت المقاومة أكثر من كمين في المنطقة لاستقبال جنود النخبة على وقع العبوات والرصاص. وأغلقت، بالعبوات، جميع الطرقات التي يمكن أن يمرّوا بها، أو أن تأتي إليها قوّة الإنقاذ بعد انفجار العبوات.
قبل أيام من تنفيذ العملية، حضر المقاومون في مكان الكمين بأعلى درجة من الجهوزية. عند مغيب الشمس، وعلى مدى أيام، كان الضابط في سلاح الهندسة يتوجّه إلى المكان متخفّياً، يزرع العبوات في أكثر من مكان. ثم قبل طلوع الفجر، يعاود تفكيكها من مختلف الكمائن المعدّة في المنطقة. في المرة الأولى، لاحظ الضابط في الهندسة أن وقت زرع العبوات يستغرق أكثر من المدّة المخصّصة لذلك، ولا سيما أنه يجري بهدوء وسريّة مطلقة، ما يتطلب وقتاً إضافياً. طلب من قائد المجموعة مساعدة ضابط آخر في الهندسة. لبّى القائد الطلب بسرعة. صار يتوجه الضابطان يومياً بعد المغيب إلى المكان، يزرعان العبوات مساءً، ثم يفككانها صباحاً، واستمرا بذلك حتى ليل 4-5 أيلول. عمل المقاومون في كل ليلة أيضاً على ملء أكياس «الخيش» ثم تفريغها فجراً، حيث كانت توضع في نقاط محدّدة للاحتماء أثناء الاشتباكات المتوقعة بعد انفجار العبوات. ربط المقاومون حبالاً لتحريكها وإرسال إشارات إلى بعضهم البعض، فاستخدام اللاسلكي وصوته في مثل هذه الساعات كفيل بأن يُفشل مخطّط المقاومة بأكمله. تنبّه قائد العملية إلى صخرة بيضاء في مكان تموضعه، يمكن أن تُثير انتباه جنود العدو عند اقترابهم. تحوّل إلى رسّام، قام بتمويهها باحتراف بلون الأشجار. ثم راح ينام هو ومنفذو العملية، على قلّة عددهم، في مكان الكمين لأيام متتالية. لم تكن مهمة المقاومين زرع العبوات فحسب، وإنما تنفيذ عمليات انتشار شبه يومية في المنطقة، وعلى نقاط محدّدة بدقّة. والأهم، أن ذلك كان يجري بتكتيك لا يسمح للعدوّ بمعرفة أن هناك من ينتظره على الأرض لإحالته أشلاء.
العملية
في منتصف الليل، وعند الساعة 12 ودقيقة، حطّ كوماندوس «شايطيت 13» على شاطئ عدلون بقيادة المقدّم يوسي كوركين، وبينهم الضابط الهندسي إيتمار إيليا، الذي كان يحمل أكثر من نوع عبوة على ظهره، ما يشير إلى أهداف قد تكون أكثر من «صيد ثمين». كانت العملية تُتابع من أعلى الهرم في قيادات العدو، حيث تمركز عدد من الزوارق الإسرائيلية أمام الشاطئ، وبارجة قيادية على متنها قائد المنطقة الشمالية آنذاك اللواء عميرام ليفين. كذلك، حضر وزير الحرب إسحاق مردخاي يومذاك إلى المنطقة، في غرفة للقيادة بأحد المراكز على الساحل، وحضر نائب وزير الحرب سيلفان شالوم إلى غرفة العمليات لمتابعة سير العملية.
بدأ عناصر النخبة بالسير باتجاه البساتين في بلدة أنصارية، واستغرق سيرهم إلى البلدة 42 دقيقة. كان تقدير المقاومة أن يمرّ جيش العدو بين الأشجار الخفيفة حتى لا يضيع في طرقات البلدة. لكنه غيّر مساره، وبقي على أطراف البستان إلى جانب شجر السرو والليمون، حيث استغل ممراً صغيراً بينهما، من الواضح أنه اختير بمساعدة عملاء. وبدلاً من أن يسير الفصيل بخط مستقيم، تحرّك جنود العدو بخط مُلتوٍ بين كمين مجموعتين للمقاومة، «مرّوا بيننا» يقول ساجد.
في تمام الساعة 12:44، وهم على وشك اجتياز الطريق بين قريتَي أنصارية ولوبية، سمع أحد الجنود حركة غريبة، وقبل أن يلتفت إلى مصدر الصوت، دوّى الانفجار الأوّل في المكان. سارعت المجموعة الثانية في المقاومة إلى تفجير العبوة الثانية بعد أقلّ من 14 ثانية، قُتل نتيجتها قائد الفصيل كوركين، وعلا صوت صراخ الجنود. بعد ثلاث دقائق، انفجرت العبوة التي كان يحملها الجندي إيليا على ظهره، وهو الذي رُفعت بقايا جثته بعد العملية. انقضّت المجموعة الأولى بالأسلحة الرشاشة على جرحى العدو ومن بقي منهم أحياء، وحاولت أسر أشلاء القتلى. تصدّى قائد المجموعة للاشتباكات الأولية، أصيب بطلقة في عنقه فتراجع إلى الخلف، لكنه لم يستشهد. أعطت الإصابة هامشاً لعنصر الإشارة في العدو للتبليغ عن العملية وطلب الإغاثة. خلال دقائق محدودة، وصلت قوّة «669» إلى المكان، وهي قوّة إغاثة مخصّصة للتدخل على أرض المعركة لإسعاف جرحى العدو ونقلهم وإخلاء القتلى.
سحب الأشلاء والجرحى
كمنت المقاومة لطائرة «يسعور» التي كان من المفترض أن تحطّ في ملعب البلدة، وحَضَّرت لمجموعة التأمين التي أعدّ لها العدو ما يلزم لاستقبالها بالنيران. لكن نظراً إلى الصدمة التي تعرّض لها العدو، هبطت الطائرة في مكان آخر، ومع ذلك، أصيبت بعدد من شظايا قذائف الهاون التي أطلقها المقاومون. قضت المقاومة في عمليتها النوعية على 12 جندياً وجرحت آخرين. بعد ثلاث ساعات، ورغم كل التأمينات التي قام بها العدو من زوارق حربية وطائرات استطلاع وقوات نخبة إنقاذية، وتدخّل مروحيات مقاتلة لمحاولة خلق حزام ناريّ حول مكان التفجيرات، لمساعدة وحدة الإنقاذ في عمليات الإجلاء، انكفأ العدو وانسحبت الوحدة الإسرائيلية عبر الجوّ خوفاً من المزيد من الخسائر، تاركة أشلاء إيليا وسلاحه خلفه، وهي سابقة لا يقوم بها جيش الكيان بسهولة. جمع المقاومون أشلاء وغنائم، وانسحبوا فجراً إلى الخلف.
صباح 5 أيلول، وعند حضور الجيش اللبناني لمعاينة المكان، تجمّع الجنوبيون في مكان العملية محتفلين بما حقّقته المقاومة. حضر ساجد مع الأهالي، هتف معهم للمقاومة. بارك لأهالي البلدة مع المباركين. تصرّف كأنه تلقّى خبر العملية مثلهم. لم يعلم الحاضرون أن يدَي ساجد كانتا من بين الرسامين الذين هندسوا صورة أنصارية الشهيرة. عند حديثه عن العملية، تحفظ لهجة ساجد الجنوبية إرث الجنوب، بكل ما يختزله من تحدّيات وانتصارات ومقاومة كانت «لا تقاوم المخرز»، وأصبحت تهدّد، بعد 25 عاماً، وجود الكيان. على الرغم من مرور كل هذه السنوات، استذكر ساجد العملية بتفاصيلها. دوّن ذاكرته على أوراق صغيرة، فهو لا يحمل هاتفاً ولا يستخدمه. وكان كلّما أراد تذكّر اسم أحد قادة العدو الذين أذلّتهم المقاومة، قرأه من ورقته المعتّقة بنشوة الانتصار، فيصيب ما يصيب من اسمه مصبوغاً بلكنته الخاصة. ما لم يفهمه العالم بسهولة، أن ما رُفِع يوم العملية كان رأس هيبة العدو الممزّق.
نتائج العملية
عمدت قيادة الاحتلال في التسعينيات إلى محاولة اجتراح خيارات عسكرية لقمع مقاومة حزب الله وإحباط عملياته. ومع فشل كل خياراتها، بلورت خياراً رأت فيه أنه يُشبه تكتيكاته في شنّ العمليات ضدّها، ويرتكز على تنفيذ عمليات موضعية ومدروسة تستهدف كوادر قيادته، استناداً إلى تفوّق إسرائيل في عدة مستويات، من ضمنها المستويان التكنولوجي والعسكري. ضمن هذا الإطار، نفذ العدو سلسلة من العمليات التي استهدفت العديد من كوادر الحزب وعناصره في مختلف المناطق وعلى مدى نحو سنتين، وحتى موعد عملية أنصارية، فأصبح المقاومون أكثر حذراً أثناء تنقلهم في المناطق المحرّرة، ما سيؤدي، بنظر العدو، إلى إرباك عمل المقاومة، فلا تعود قادرة على التخطيط لعمليات ضدّ جيش الاحتلال بشيء من الهدوء. اعتمد العدو نصب الكمائن والعبوات، تجنباً لخيار الاغتيال بالطيران الذي فرض إزاءه حزب الله معادلة الرد على المستوطنات الشمالية. تمت بلورة هذه العقيدة في مواجهة المقاومة بعد تولي اللواء ليفين، وقتذاك، قيادة المنطقة الشمالية، والمعروف بأنه أكثر هجومية وعدوانية من سلفه. لكن قيادة الجيش كبحته خوفاً من الأثمان التي ستدفعها المستوطنات الشمالية، كما كشفت التقارير في حينه. وكان الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، قد وصف ليفين بـ«المتعجرف»، إذ كان متحمساً للقيام بعمليات خاصة على مستوى عال، لكن «أغنية الصفصاف» تحوّلت إلى لحن جنازة لم ينسها.
أطاحت «أنصارية» استراتيجية العدو تلك، وعلى الإثر توقّف مسلسل الاغتيالات في أعقاب ما سُمّي بـ«كارثة الشايطيت» في الأدبيات الإسرائيلية. تأسّست «شايطيت 13» البحرية، إحدى أهم قوات النخبة في جيش العدو، مع بداية تأسيس جيش الكيان، وكل عنصر من عناصرها هو بمثابة ضابط مدرّب على عمليات البحر - بر، والجو - بر والجو - بحر لمدة تزيد على 18 شهراً. أظهرت العملية تفوّق العقل الاستراتيجي للمقاومة على أجهزة العدو ضمن إطار ما يُعرف بـ«حرب الأدمغة». مُني سلاح الاستخبارات الإسرائيلية، الذي كان له دور رئيسي في بلورة عملية «الصفصاف» بهزيمة كبيرة، وكانت «أنصارية» بمثابة تمزيق لهيبة الكيان واستخباراته.
تعليقات: