معدّلات الزواج تتراجع وديموغرافيا المجتمع اللبنانيّ مهدَّدة... ماذا في الأرقام؟

حفل زفاف
حفل زفاف


انتهى موسم "عقبالكن" هذا الصيف بتفاوت ملحوظ بين الطبقات الاجتماعية في لبنان. بعض الأشخاص استطاعوا إقامة حفلات زفاف صاخبة وضخمة، فيما حاول آخرون تأمين مستلزمات منازلهم المستقبليّة بعد عناء، رفضاً للاستسلام للواقع الاقتصاديّ الصعب.

خلّفت الأزمات التي عصفت بلبنان في العامَين الماضيَين، على الصعد السياسية والاقتصادية والصحّية، آثاراً جمّة على طبيعة الديموغرافيا اللبنانية. فقد شهد البلد انخفاضاً في معدّلات #الزواج والولادات، وسط ارتفاع في معدّل الوفيات من 29 ألف وفاة في العام الواحد إلى 35 ألفاً، نتيجة جائحة كورونا، بحسب دراسة لـ"إدارة الإحصاء المركزي" نهاية عام 2021. وفق منسّق مختبر الديموغرافيا في مركز أبحاث معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، الدكتور شوقي عطيّة، فإنّ هذه التغيّرات ستؤدّي إلى اختلاف في معدّل أعمار السكان في المجتمع اللبناني، خصوصاً مع عدم قدرة الدولة على إحصاء أعداد المهاجرين رسميّاً، ما سينتج عنه اختلافٌ في متوسّط العمر في المجتمع اللبنانيّ في غضون 5 سنوات مقبلة.

تُشير أرقام "الدوليّة للمعلومات" التي حصلت عليها "النهار"، إلى انخفاض مستمرّ سجّلته دوائر النفوس في لبنان لناحية أعداد عقود الزواج بين الأعوام 2017 و2021، وسط انتعاش قليل بين عامَي 2020 و2021، بعدما "اعتاد" اللبنانيون على الأزمة، ووجدوا حلولاً بديلة لنمط حياتهم. وقد بلغت نسبة التراجع في معدّلات الزواج في لبنان 11 في المئة، في هذه الأعوام، بسبب عدم توفّر القروض السكنية، وارتفاع تكلفة الإيجارات، وبعضها بالدولار "الفريش"، واشتداد الأزمة المالية.

الاختلاف في الطبقات الاجتماعية اليوم عمّق الفجوة لناحية قدرة الفرد على تأمين تكاليف الزواج، فهناك فئة لم تتأثّر بالأزمة، بل كانت باباً لتعزيز قدرتها الشرائية مع ارتفاع سعر صرف الدولار باعتبار أنّ مدخولها الشهريّ بالدولار، وقد اعتادت على نمط عيش معيّن لم يهتزّ بفعل انهيار الليرة.

هذا الصيف، أقامت بتريسيا عرساً كبيراً في البترون بلغت تكلفته 30 ألف دولار، قبل سفرها وزوجها للإقامة والعمل في أفريقيا، لكنّها تؤكّد أنّه "لو كنّا نعمل في لبنان لما استطعنا دفع هذه التكاليف، وكنّا سنضطرّ للاستغناء عن الحفل مقابل تأسيس منزل".

وبالرغم من قدرتها المادّية الجيّدة، واجهت بتريسيا صعوبات في الحجوزات لرفض بعض وكالات تنظيم الأعراس تحديد التكاليف بداية عام 2022 تذرّعاً بعدم استقرار السوق، فيما عمدت شركات أخرى إلى زيادة تكاليفها بعد فترة، على الرغم من تسديد دفعة أولى بالدولار، والاتّفاق على مبلغ معيّن، وتقول: "أحد أقاربنا تواصل الأسبوع الماضي مع المصوّر الفوتوغرافيّ ذاته الذي تعاقدنا معه في حزيران، فطلب مبلغ ألف دولار إضافيّ عمّا دفعنا منذ 3 أشهر".

استغنت بتريسيا عن بعض العادات المتعارف عليها في الزواج، فلم تُحدّد ما يُعرَف بـ"liste de marriage"، "لئلّا أُجبر أحدٌ على دفع أموال إضافية بالدولار الفريش"، وفق قولها، مضيفةً: "اكتفينا باستقبال التهاني في المنزل وأغلب الهدايا كانت بالليرة اللبنانية، فيما قلّة فقط من الأقارب المغتربين استطاعوا دفع مبالغ كبيرة نسبيّاً بالدولار".

في رأي عطية، فإنّ "إقامة عرس بتكلفة 30 ألف دولار أو أكثر لهذه الفئة يُعدّ طبيعيّاً اليوم، فقد كانت الأعراس سابقاً تصل تكلفتها إلى 100 ألف دولار، خصوصاً بالنسبة إلى العاملين في الخارج، فيما طبقة أخرى تعاني يوميّاً لتأمين إيجار منزل صغير أو دفع بدل إتمام معاملة الزواج".

هذه التجربة في الزواج لا تنسحب على تجربة خلود، التي تُحضّر لزفافها في نهاية أيلول الجاري، فقد واجهت مشاكل عديدة خلال فترة خطوبتها التي امتدّت لـ4 سنوات بسبب الأزمة، بعدما خسرت وخطيبها منزلهما الذي أشترياه بالتقسيط، عقب مطالبة مالك العقار دفع السندات بالدولار حصراً، وبات يعادل ثمنه الـ3 مليارات ليرة لبنانية تقريباً حينها.

قبل 2019، كان الوضع المادّي للثنائيّ جيّدًا جدّاً، وقد انتهزا الفرصة لشراء بعض الحاجيّات تفادياً لارتفاع إضافيّ للدولار، إلّا أنّه بعد الارتفاع الجنونيّ العام الماضي، وجدا نفسَيهما أمام مسارَين، إمّا التشاؤم والانفصال، أو تحدّي الواقع. تروي خلود كيف اضطرّا إلى "العمل معاً بين 12 و16 ساعة يوميّاً، في محاولة للادّخار وتحويل العملة إلى الدولار خوفاً من خسارة قيمتها، لكنّ المسار كان بطيئاً، فما كان يمكن تحقيقه في أشهر، أخذ نحو سنة ونصف السنة، إضافة إلى التكافل الاجتماعي من أقارب مغتربين كانوا سنداً لنا في محنتنا".

قد يعتبر البعض أنّ الزواج "مغامرة" في هذه الظروف، إلّا أنّ خلود ترى أنّ "الخطوة ليست مستحيلة بل يمكن المواجهة والادّخار في المصروف وتأمين الأساسيات، فقد نجحتُ في تغيير الأسلوب الاستهلاكيّ بعيداً من الماركات والمظاهر، فقصدتُ محال الجملة، واشتريتُ بعض الأغراض بالتقسيط، بكلفة لم تتعدَّ الـ4500 دولار لأثاث المنزل والقطع الكهربائية للمطبخ".

وأمام هذا الواقع، كان لخلود وخطيبها خيار واحد فقط، إمّا شراء أثاث المنزل أو إقامة عرس، قبل أن يتكفّل شقيقها بنفقات الحفل كهدية، والتي بلغت تكلفته 3 آلاف دولار، بعدما سافر للعمل خارجاً العام الماضي.

تعليقاً على هذه الظاهرة، لا ينفي عطية، في حديثه لـ"النهار"، أنّ "الأزمة تؤثّر بشكل واضح على نمط الزواج في لبنان، إلّا أنّ السلوك الاستهلاكي اختلف ولوحظ تراجع الطلب على الكماليات مثل كثرة المكيّفات في المنزل، إذ لا كهرباء لتشغيلها وباتت من الرفاهيّات، في حين أنّ بعض الفيتات كنَّ يشترطنَ سابقاً تأمين عاملة منزلية قبل الزواج".

تُجمع الآراء الاجتماعية على أنّ تردّي الوضع الاقتصادي في لبنان يُعَدّ المؤثّر الأوّل في انخفاض معدّلات الزواج، فكيف للفرد الذي بات عاجزاً عن تأمين اكتفائه اليوميّ تحمّل مسؤولية تأسيس أسرة؟ وكيف لموظّف في القطاع العام يتراوح مدخوله بين 150 و200 دولار فقط، شراء منزل أو استئجاره بالدولار أيضاً؟ يعتبر عطيّة أنّ "من أقدم على الزواج حتى العام 2020 "زمط"، فاليوم بتنا نلاحظ اختفاء الطبقة الوسطى، وصار نحو 80 في المئة من الشعب اللبناني عند خطّ الفقر، والذي يمكن تحديده وفق تقسيم دخل الأسرة على عدد أفرادها وعدد أيام الشهر. فإذا كان دخل الأسرة للرجل والمرأة معاً يبلغ 300 دولار، وأنجبا ولدَين، فهذا يعني أنّ كلّ فرد يستهلك دولارَين فقط يوميّاً، ما يضعهم تحت خطّ الفقر المحدّد من قبل الأمم المتّحدة بـ3 دولارات يوميّة للفرد".

التفاوت في المجتمع اللبنانيّ لا يقتصر فقط على الطبقات الاجتماعية، إذ تلحظ المعالجة النفسانيّة ماري شاهين تفاوتاً في معدّلات الزواج بين الأطراف والمدن، فقد "شهدت المناطق الريفية زيجات أكبر، فيما يُفرض على القاطنين في المدينة النظر إلى الموضوع المادّي كأولوية"، مؤكّدة أنّه "إذا كان الزواج هروباً من الأزمة فلن يكون حلّاً، فيجب أن يُبنى الزواج على الحبّ أوّلاً، والإشكالية اليوم ليست بتأسيس العائلة، إنّما بالضغط الذي يرافق الفرد لتأمين المنزل ومستلزمات الحياة".

الصراع الذي يواجه الشباب في الإقدام على الزواج، أدّى إلى بروز علاقات خارج إطار الزواج أو قبله، وهو ما يجمع عليه عطية وشاهين، باعتبارها "ظاهرة موجودة في المجتمع، وتأخذ بعداً إلى "شرعنة" العلاقات باختلافها".

من الناحية النفسية، تعتبر شاهين، في اتصال مع "النهار"، أنّ "الزواج خطوة لا بدّ منها للاستقرار"، فيما لا ترى أنّ الأزمة المادية تشكّل وحدها عائقاً أمام تحقيقه، فـ"الشباب باتوا يبحثون عن حلول بديلة، كتأمين عمل في الخارج ومن ثمّ العودة إلى لبنان للزواج"، وتضيف: "السبب الرئيسيّ لانهيار العلاقات هو الصراعات المختلقة بين الشريكين، وإلقاء اللوم على الآخر بالعجز عن تأمين عمل أو الاكتفاء المادي، والأساس هنا هو التكافل والتضامن في مواجهة الأزمة".

لم تكن الظروف المادية مستقرّة دوماً في لبنان، وواجه الشباب صعوبات عديدة في العقود الأخيرة أخّرت فرص الزواج أو أرجأت بعض المشاريع، فيما الأبرز وفق شاهين "إدراك كيفية التعامل مع التقلّبات الحياتية، وبمتطلّبات رفاهية أقلّ، وأن يتربّى الفرد على القناعة، فالخوف بات يسيطر على الشباب بسبب عدم الرضى بالقليل، فيما الأهم هو الاحترام والثقة المتبادلَين لتخطّي الأزمات".




تعليقات: