من سوء الحظ أنه من غير المسموح منح لقب قديس للخبازين، ذلك أن هناك سيدة تنطبق عليها معظم المعايير اللازمة للحصول على اللقب، حيث انها:
(1) متوفية.
(2) أبدت فضائل نبيلة.
(3) اجتذبت الكثير من المريدين والمعجبين حولها.
(4) ان الاختراع الذي توصلت إليه يعتبره الكثيرون بمثابة معجزة.
هذه السيدة هي «روث جريفز ويكفيلد»، أما الإسهام الذي قدمته للعالم فهو الكعك الرقيق بالشوكولاته. في أحد الأيام خلال عقد الثلاثينات من القرن السابق، كانت «ويكفيلد»، صاحبة مخبز «تول هاوس إن» بمنطقة «ويتمان»، على بعد 23 ميلاً من بوسطن، منهمكة في صنع بعض المخبوزات داخل مطبخها. وتشير بعض الروايات إلى أن اللحظة الحاسمة جاءت عندما انسكبت بالصدفة محتويات علبة شوكولاته نصف محلاة في الخليط الذي كانت تقوم بتجهيزه، أو عندما أقدمت «ويكفيلد»، في خطوة ذكية من جانبها لزيادة جاذبية الكعك الذي تصنعه، بوضع قطعة شوكولاته داخل المحتويات. وبغض النظر عما إذا كانت هذه الخطوة قد جاءت بمحض الصدفة أو عمداً، تبقى الحقيقة أن كعك الشوكولاته الرقيق الذي صنعته حاز على إعجاب عملائها ولا يزال يحظى بالإقبال حتى اليوم رغم مرور قرابة 80 عاماً. في الواقع، تتميز مكونات هذا الكعك ببساطة شديدة، حيث لا تتجاوز البيض والدقيق والسكر والخميرة والملح والشوكولاته. وبذلك تبدو طريقة صنع هذا الكعك يسيرة للغاية لدرجة أن الأطفال ربما يتمكنوا من إتقانها. بيد أن «هيرفي بوسوت»، خباز وصاحب متجر «الموندين» في بروكلين، له رأي آخر، حيث أكد أن:«الأمر ليس مجرد وصفة، وإلا كنا سنخسر جميعنا أعمالنا التجارية. إن الاختلاف ينشأ عن أسلوب صنع الكعك». ومثلما الحال مع طبق البيض «الأومليت» الذي يعتبره الكثيرون العلامة المميزة للطاهي البارع، فإن رقائق الكعك المحلى بالشوكولاته هي الاختبار الحقيقي لمدى مهارة الخبازين. في واقع الأمر، كلما تضاءل حجم المكونات، زادت احتمالات الفشل، ما يتجلى في الصور الباهتة من الكعك التي تنتجها الكثير من المحال، مثل أنماط الكعك الخالية من البيض والسكر والأخرى المضاف إليها نبات الخروب. وتطرح جميع هذه المحاولات التساؤل حول ما إذا كان هناك أي شخص قد تمكن من التفوق على «ويكفيلد»؟ سعياً وراء التوصل لإجابة، بدأنا جولة تضمنت بعض أفضل المخابز داخل نيويورك، إلى جانب الحديث إلى عدد من أشهر المتخصصين في مجال إنتاج المخبوزات. وتمثلت النتيجة في الوصول إلى وصفة لصنع الكعك على الصورة المثلى. وتعتمد هذه الوصفة على عقود من المعرفة والخبرة والأسرار. كانت أول زيارة لمتجر «سيتي بيكري» في شارع ويست 18، ويملكه «موري روبين»، الذي يبدو أنه يستمتع بالحديث عن الطعام بقدر ما يستمتع بتناوله. وفي إجابته عن سؤال طرحناه عليه حول السر وراء جودة مخبوزاته، قال: «إننا نخبزها بكميات صغيرة كل ساعة حتى تكون دوماً طازجة». وأشار إلى أن المتجر يبيع ما يزيد على 1000 كعكة يومياً. إذاً، لماذا يكاد يتفق الجميع على تفضيل الكعك المصنوع داخل المنزل عن المنتج داخل المخابز؟ ابتسم «روبي» لدى طرح السؤال عليه، وقال «إنها قاعدة السخونة، فحتى الكعك الرديء تصبح له جاذبية عندما يخرج للتو من الفرن». وقد اتفق جميع الخبازين الذين التقينا بهم حول هذا الرأي. على سبيل المثال، يحتفظ «جاك توريس»، الذي يمتلك ثلاثة فروع لمتجر «جاك توريس تشوكولات» في مانهاتن وبروكلين، بصينية صغيرة للتسخين بالقرب من موضع تسلم العملاء لمشترياتهم بحيث يتمكنون من الحصول على الكعك ساخنا، لكنه في الوقت ذاته يعرض على العملاء تقديم الكعك في درجة الحرارة العادية أيضاً. أما «سيث بيركويتز»، صاحب متجر «إنسومنيا كوكيز» بشارع إيست إيث، فيحرص على تقديم الكعك للمشترين مباشرة من داخل الفرن. من ناحيتها، أعربت «هيزر سو مركر»، إحدى الشقيقات الثلاث اللائي يمتلكن متجر «روبي إيه فيوليت» الذي تم افتتاحه قريباً في شارع ويست 50، عن اعتقادها أن الكعك الرقيق المحلى بالشوكولاته الذي ينتجه متجرها «أفضل بكثير بالتأكيد عندما يقدم ساخناً». وفي إطار حديثه عن أساليبه الخاصة في صنع الكعك، كشف «روبين» عن عنصرين جوهريين يمكن لمن يُقدم على صنع الكعك في المنزل الاستعانة بهما لإضافة مذاق أفضل، أولهما: أنه يترك العجين يختمر لمدة 36 ساعة قبل خبزه. وعندما سألناه عن السبب، هز كتفيه قائلاً:«لا أعلم، كل ما أعرفه أنها تصبح أفضل مذاقاً». من جانبها، علقت «شيرلي أو. كوريهير»، مؤلفة كتاب «كوك وايز» الصادر عام 1997، حول فنون الطهي، على الأمر بقولها «إن موري يتميز بالذكاء. إن ما يقوم به عبقري فعلاً، فهو يسمح للعجين والمكونات الأخرى بأن يتشربا تماماً السائل ـ وهو البيض في هذه الحالة ـ من أجل تكوين عجين أكثر جفافاً وتماسكاً، ما يحقق نتائج أفضل عند خبزه». وأوضحت «كوريهير» أنه من المهم توافر فترة زمنية طويلة لاتحاد البيض مع الماء، نظراً لأن مكونات البيض بطيئة الحركة وقابلة للتحول إلى كتلة لزجة سريعاً. وأضافت ان الأسوأ من ذلك أن الزبد يعلق بالدقيق ويتحول إلى ما يشبه «حرس الحدود»، حيث يحول دون مرور الماء عبر المكونات الجافة. ومن شأن وضع العجين لفترة إضافية داخل المبرد المساعدة في التغلب على هذه المشكلة.
أما بالنسبة لـ«روث ويكفيلد»، فقد أشارت في كتابها «تول هاوس كوك بوك» إلى أنه:«في تول هاوس، نقوم بتبريد العجين طوال الليل»، لكن هذه المعلومة بالغة الأهمية لم ترد في الوصفة الخاصة بها التي طبعتها شركة «نستلة» على ظهر غلاف مخبوزاتها. وفي محاولة لاختبار هذا الأسلوب، قمنا بوضع قطعة عجين مجهزة لصنع الكعك في المُبرد. وقمنا بخبز قطع من هذه العجينة بعد 12 و24 و36 ساعة. وفي كل مرة استخدمنا ذات المقلاة وذات الفرن بنفس درجة الحرارة. بعد 12 ساعة، أصبح العجين جافا وأصبح شكل الكعك المحلى جميلا. وبعد 24 ساعة أصبح الأمر مثيرا للاهتمام. فتساوى الكعك في اكتساب لون بني وبدا أروع من خبزة الكعك الأولى. ولكن كان الاختلاف الأكبر في المذاق، حيث كانت الخبزة الثانية غنية بالكراميل ومقدار ضئيل من «التوفي».
ويبدو أن الانتظار لمدة أطول له نتيجة أروع. فبعد 36 ساعة، كان العجين أكثر جفافا من العجين الذي ترك لمدة 12 ساعة؛ وكان العجين متماسكاً جيدا عند تشكيله. خُبز الكعك بالتساوي وكان لونه أكثر حمرة من الدفعات السابقة. والمفاجأة كانت المذاق الرفيع الثري بالتوفي والسكر البني القوي. وفي جلسة تذوق عامة، مكونة من مجموعة من مهووسي الكعك المحلى كما يطلقون على أنفسهم، فازت هذه الدفعة الأخيرة من الكعك المحلى.
وتتعلق النصيحة الثانية التي يقدمها روبين بالحجم، حيث يوصي بأن يكون حجم الكعكة 6 بوصات، لأنه يعتقد أن الحجم الأكبر يسمح بوجود ثلاثة أجزاء مختلفة في الكعكة. يقول:«أولا، هناك الجزء الخارجي المقرمش ويبلغ حجمه بوصة أو نحو ذلك». ويضيف:«وهناك وسط الكعكة اللين»، وهو في حجم نصف دولار. «ولكن يكمن السحر الحقيقي في الحلقة التي يبلغ حجمها بوصة ونصف البوصة بين الجزءين الأخيرين حيث تمتزج النكهات».
وأكدت التجربة على نظرية روبين، التي من الممكن تسميتها بقاعدة الأجزاء الثلاثة. ففي الكعك الذي ترك لمدة 24 ساعة و36 ساعة، ظهرت الحلقة التي وصفها روين بحماس. وأعطت الأطراف المقرمشة نكهة مشابهة لحلوى البنيوتشي حول مركز الكعكة الذي كان لينا مثل كعك المجموعة الأولى. وقد أثارت نظرية روين عن تأثير الحجم في تكوين الكعك اهتمام كوريهير التي أرادت ذكرها في كتابها الجديد بعنوان «الخبز الناجح» (سكريبنر، 40 دولارا)، المقرر نزوله للأسواق في شهر أكتوبر (تشرين الأول). يبدو أن الكعك ذا الأحجام الكبيرة هو بدعة القرن الواحد والعشرين. ويبيع توريس وبوسوت الكعك في الحجم الذي ينصح به روبين. ويقدم مخبز ليفان، في غرب شارع 74، كعكا كبير الحجم وزنه 6 أوقيات، الذي لم تطبق عليه قاعدة روبين الثلاثية، ولكن له أطرافا مقرمشة.
ولكن كيف يكون كعك الشوكولاته المحلى دون تأثير الشوكولاته الجيدة؟ وفقا لما قاله معظم الخبازين، تستطيع الشوكولاته التي تحتوي على 60 في المائة من الكاكاو أن تجعل من العجين أقوى أنواع الكعك المحلى. يحصل البعض مثل روبين وتوريس على شوكولاته مصنعة خصيصا لهم. ويستخدم آخرون من بينهم الأخوان ميرسير ماركات مستوردة عالية الجودة مثل كاليبوت أو فالرونا، وهم يضيفون ما لا يقل عن 40 إلى 60 في المائة من الشوكولاته إلى العجين.
اكسر كعكة من صنع توريس وستجد شيئا مثيرا للفضول. فبداخلها لن تجد قطعا غليظة من الشوكولاته، ولكن طبقات رقيقة داكنة. ويشرح ذلك بقوله: «استخدم شوكولاته بها نسبة عالية من زبدة الكاكاو، لأنها تذوب بسهولة»، وهذا لا تفعله القطع التقليدية. وهذا النوع من الشوكولاته يستخدم كطبقة خارجية لحلوى الشوكولاته. ومن أجل الحصول على الطبقات المميزة للكعك الذي يصنعه، يقطع توريس الشوكولاته، التي تصنعها شركة بيلكوليد البلجيكية، إلى أرباع، تساوي خمسة أضعاف حجم القطع العادية. ولأن هذه الأرباع الرقيقة مستوية وتذوب بطريقة ممتازة؛ النتيجة كما يقول هي طبقات من الشوكولاته والكعك في كل قضمة. طُلب من دوري غرينسبان، وهي مؤلفة لعديد من الكتب عن الخَبز من بينها كتاب «الخَبز: من منزلي إلى منزلك»، أن تضيف إلى ما ذكره كبار الخبّازين أثناء البحث عن الكعك المثالي. وعلى الرغم من عدم ثقتها في إضافة جديد إلى ما ذكره الآخرون، إلا أنها ذكرت القائمة المعتادة: اقرأ الوصفة أولا، وتأكد من وجود جميع المكونات في درجة حرارة الغرفة، واستخدم أفضل المنتجات التي تجدها جودة، ولا تفرط في المزيج. ثم تطرقت إلى ما أغفله الجميع، ويتعصب بشأنه من يخبزون في المنزل وهو الملح. وقالت:«لا يمكن التقليل من أهمية الملح في المخبوزات المحلاة». فيعطي الملح، في العجين ومنثورا فوق الكعك، بعدا جديدا لمذاق الكعك المحلى. ولتوضيح الفكرة، أشارت إلى سابليس كوروفا، وهو نوع من الكعك المحلى بالشوكولاته مع كمية كبيرة من الملح المستخرج من البحر، في كتابها «حلوى باريس» (برودواي بوكس، 2002). منذ خمسة أعوام، لم يكن ملح البحر مقبولا كمكون لصنع الكعك في المنازل، ولكنه أصبح معتادا الآن، إلى حد ما بفضل اعتقاد غرينسبان القوي في أهميته.
وبعد عدة أسابيع من البحث والاختبار وإعادة الاختبار، حان الوقت لجمع وصفة جديدة للكعك المحلى، لتلائم الأذواق الحالية ولإدخال ما تعلمه الخبازون من خبرات. والوصفة الموجودة هنا مأخوذة من طريقة توريس لصنع الكعك التقليدي، لكنها تعتمد على اكتشافات ونصائح من خبازين ومؤلفين آخرين. لذا فإنها كعكة الشوكولاته من الطراز الأول.
ويفوق هذا الإبداع الناتج عن موهبة رفيعة كعك وايكفيلد. هل في ذلك شك؟ هناك طريقة واحدة لمعرفة هذا.
* خدمة «نيويورك تايمز»
تعليقات: