"ستتكرر مثل هذه الحالات ليس في البصرة فحسب بل في جميع مناطق العراق اذا استمرت الحكومة بالتغاضي عن هذه الحوادث، وكذلك استمرار المجتمع بالتبرير للمتحرش وإلقاء اللوم على ملابس النساء وغير ذلك".
المشهد مربك، فتيات يهربن مذعورات من مجموعة شبان من خلال هيئتهم تدرك أنهم في العشرينات. تبدأ موجة التحرش بعدد قليل من الشبان لتتوسع الدائرة ويتجمّع العشرات حول الفتيات فيحاصرونهن بغية التحرش بهن.
التحرش الجماعي حصل في منتزّه القرنة، شمال محافظة البصرة، المدينة التي تشهد يومياً نزاعات عشائرية بين المجموعات المسلحة، تصل أحياناً إلى استخدام الأسلحة الثقيلة، كتلك المستخدمة في المعارك مثل القاذفات وغيرها، مع عجز القوات الامنية عن التدخل خشية الاصطدام معهم.
من خلال الفيديو المنتشر على مواقع التواصل الاجتماعية، تمكن ملاحظة أن هناك من شارك بمحاصرة الفتيات من غير أن يراهنّ حتى، فقد كانوا يقفون على بعد عشرات الأمتار، ويعدّون الطريق، ذلك أن المفهوم السائد أن الفضاء العام للرجال فقط، وكل امرأة تخترق المكان والحدود الدينية والعرفية، تصبح مباحة للتحرش والتعنيف.
تحولت حادثة التحرش في البصرة إلى هستيريا جماعية، فكان الشبان يتجمعون من دون ان يفهموا حتى ما يحدث بالتفصيل ومن دون أن يعرفوا شيئاً عن هوية الفتاتين.
“بنات العائلات” لا يخرجن بمفردهن
علياء محمد، مهندسة من ميسان جنوب العراق، تقول “إن معظم الشبان العراقيين يعتقدون، وفق تربيتهم أن “بنات العائلات” ذوات العفة والشرف لا يمشين في الشارع بمفردهن ولا يذهبن إلى مراكز التسوق ولا إلى المتنزهات والمطاعم ولا يمشين في الشارع أو يستخدمن التاكسي بمفردهن”.
ما حدث مع فتاتي البصرة، من تحرش جماعي، أتى في هذا السياق المرعب، بحسب علياء. شبان موتورون هاجموا الفتاتين ببساطة لأنهما كانتا بمفردهما، لا يصحبهما رجال من العائلة، وليس بسبب ملابسهما، “حتى لو كانتا بالعباءة، كانتا ستتعرضان للهجوم أيضاً، ولكن لو كانتا برفقة رجل، لما حصل أي اعتداء عليهما”. وسلوك بعضهم لا يقيم اعتباراً حتى للفتاتين بل يهدف التحرش إلى إشعار رجال عائلتيهما بـ”العار لسماحهم لنسائهم بالخروج من دون مرافقة وارتداء ما هو مخالف للأعراف، وهذا نوع آخر من أنواع الاعتداء الذي يتم من خلاله ممارسة الضغط والكراهية على النساء.
بصورة عامة، تتابع علياء، في حالة خروج الأهل للدفاع عن النساء اللواتي تعرضن للتحرش والاعتداء في أماكن عامة، يبدأ المجتمع القريب بالدفاع عن المتحرشين والمعتدين وإلقاء اللوم على الفتاة وعائلتها، وهنا تبدأ مرحلة جديدة من المحاسبة والتشنيع والجلد، فيدان أفراد العائلة لأنهم سمحوا لها بممارسة حياة طبيعية يعتبرونها “تعدياً على حدود الله”.
تحولت حادثة التحرش في البصرة إلى هستيريا جماعية، فكان الشبان يتجمعون من دون ان يفهموا حتى ما يحدث بالتفصيل ومن دون أن يعرفوا شيئاً عن هوية الفتاتين.
كانوا يشاركون بلا وعي ليغذّوا حالة الفوضى والتهليل والهياج لمن استطاعوا الإمساك بالفتاتين، أما هم فقد اكتفوا بالمتعة واللذة من خلال المشاهدة.
لم تتمكن الفتاتان من الهرب إلا بعد مجيء سيارة الشرطة لإخراجهما من المتنزه.
ثقافة الغنيمة
نور محمد أكاديمية عراقية (30 سنة) ترى أن “التحرش في الشارع أو الأماكن العامة على الأغلب فعل سيطرة وليس بالضرورة نابعاً من رغبة جنسية فهناك ثقافة متجذرة في المجتمع الشرقي والبدوي منذ مئات السنين هي ثقافة الغنيمة، إذ يعتبرون المرأة ملكية لذكور الأسرة وحال غياب الذكر عنها، فهي عرضة للهجوم كما كان يحدث سابقاً عند هجوم البدو على الخيول والماشية حال غياب أصحابها عنها ويعدون الأمر رمزاً للشجاعة!”. وهناك نوع آخر من التحرش العاطفي والجسدي، بحسب نور، تتم ممارسته عادة في المؤسسات الحكومية تجاه النساء اللواتي فقدن معيلهن للحصول على الإعانات والرواتب التقاعدية ويتعرضن للابتزاز من قبل موظفين لقاء إتمام معاملاتهن، وفق ثقافة الغنيمة في إخضاع الطرف الضعيف”.
بهذا الصدد تتهم نور العنزي، ناشطة نسوية من البصرة، المنظومة السياسية والذكورية بأكملها بالوقوف وراء حادثة التحرش، “المشكلة لن يتم حلّها إلا بالحصول على منظومة سياسية تهتم بهذه القضايا وتضع قوانين رادعة لمثل هذه الحوادث”.
تقول العنزي، “لم يفتح حتى الآن تحقيق عاجل من الشرطة، ولا أعتقد أن الفتاتين تستطيعان تقديم شكوى ولا أحد يعرف ماذا حلّ بهما بعد هذه الحادثة في قضاء القرنة المنطقة العشائرية والجميع هناك يتغنى بالقيم والمبادئ والالتزام بالعادات، أهذه هي عاداتهم وقيمهم هناك؟ لكننا نعود إلى الفكرة ذاتها المعششة في عقول الرجال وهي أن المرأة مكانها المنزل وعندما تخرج منه يعتبرونها متطفلة على الشارع الذي يملكونه”.
وبحسب العنزي، “يجب ألا ننسى الأثر النفسي الذي تتركهُ مثل هذه الحوادث على الضحايا في غياب أدنى اهتمام من الحكومة في مجال العلاج النفسي للنساء من الصدمات، وهذه ليست حالة التحرش الجماعي الأولى في العراق ولا أظنّها ستكون الأخيرة”.
شهد علي، ناشطة نسوية أخرى من البصرة تقول لـ”درج”: “تزداد ظاهرة التحرش في المجتمعات الريفية والعشائرية مثل مناطق شمال البصرة ولكن ليس بالصورة التي حدثت في الايام الاخيرة، الجهات الحكومية وقفت موقف المتفرج ولهذا الموقف آثار سلبية تسمح بتكرار مثل هذه الأفعال في الأيام المقبلة، ويفترض من الجهات المختصة التواصل مع الفتاتين ومساعدتهما”. شهد تقول إن القوانين العراقية لا تحمي ضحايا هذه الحالات المتوحشة، فحتى إن وجدت نصوص قانونية فإن إمكانية تطبيقها ضئيلة جداً، وتسأل شهد: “كيف بإمكان حكومة تدار بسلطة العشائر أن تحمينا؟! ستتكرر مثل هذه الحالات ليس في البصرة فحسب بل في جميع مناطق العراق اذا استمرت الحكومة بالتغاضي عن هذه الحوادث، وكذلك استمرار المجتمع بالتبرير للمتحرش وإلقاء اللوم على ملابس النساء وغير ذلك”.
التحرش لفرض القوة
يعزو الناشط المدني حسين المشهداني زيادة حوادث التحرش في العراق ضد النساء والأطفال، لا إلى غياب القوانين الرادعة فحسب، بل أيضاً إلى الفصل بين الجنسين في المدارس منذ المرحلة الابتدائية في مناطق العراق كافة، فالشاب المتحرش يُمنع من الاختلاط مع الفتيات في سن مبكرة في المدرسة واحياناً حتى من التحدث مع قريباته من الفتيات ولغياب التربية الأخلاقية من قبل عائلاتهم بسبب العرف الاجتماعي الذي ينص على أن الشارع هو من يقوم بالتربية فيتحول هذا الشاب إلى كائن مسعور حال رؤيته فتاة بمفردها”.
فيما تصف رانيا عزام، وهي طالبة ثانوية، ما تعانيه تكراراً من المضايقات في الشارع: “اثناء ذهابي الى المدرسة مع عدد من زميلاتي في كل مرة تمر سيارة بجانبنا ويخرج أحدهم رأسه منها، يبدأ بتوجيه العبارات الجنسية ويهرب مسرعاً. عندما أفكر لوهلة ماذا يريد هذا المتحرش وما هي غايته فهو لن يستطيع التقرب من أي منا وسط الشارع، وهو يعرف ذلك، تحرشه ليس بدافع جنسي ولا حتى بدافع التودد وجعل إحدانا تعجب به. لا يمكن إلا أن نستنتج أن الموضوع لا يعدّ سوى كراهية وتلذذ بنظرات الخوف وعدم الراحة التي تصيبنا حتى يشعر بأنه يسيطر علينا”.
سنار حسن - صحافية عراقية
تعليقات: