لبنان حالياً قنبلة موقوتة أعدت له منذ بضعة سنوات بسبب انحلال نظام الصحة العامة (المدن)
فيما بدأ عداد وفيات الكوليرا يرتفع، يبدو أن الحكومة اللبنانية لم تر مخاطر الوباء الآتي إلى لبنان للتحرك بشكل جدي، بل تركت المسألة في عهدة وزارة الصحة لتدبر أمرها مع المنظمات الدولية، لمحاولة احتواء الوباء في مخيمات النازحين السوريين، هذا رغم أن بقعة الانتشار اتسعت ولا سيما في عكار، لتطال لبنانيين خارج المخيمات.
مخاطر كبرى في عكار
بعد حالة الوفاة الأولى في البقاع، حيث ما زالت الفحوص تجري للعينات التي أخذت، أتت نتيجة الفحوص التي أجريت للطفل (خمسة أشهر)، الذي توفي منذ نحو أسبوع في عكار، إيجابية. فقد أرسلت العينة إلى بيروت لفحصها، وظهرت النتيجة صباح اليوم الخميس، لتثبت أن الوفاة كان بسبب الكوليرا، كما أكدت مصادر مطلعة لـ"المدن". علماً أن الطفل كان مصاباً بإسهال حاد، أسوة بأحد أفراد عائلته، استدعت حالتهما نقلهما إلى المستشفى.
في التفاصيل، بدأ الوباء بالانتشار في سوريا، حيث وصل عدد الحالات إلى أكثر من عشرة آلاف إصابة. ثم انتقل إلى مخيمات اللاجئين في لبنان. ولبنانياً اكتشفت الحالات بداية في مخيم اللاجئين في عكار، وبعدها في عرسال.
في عكار المخاطر كبيرة، وفق ما أكدت مصادر متابعة لـ"المدن". فبقعة الانتشار لم تعد تقتصر على منطقة محددة. والخطورة أن المسألة لم تعد تقتصر على مخيمات اللاجئين. فقد تم رصد حالات في بلدات بعيدة عن بعضها البعض أكثر من عشرة كيلومترات. ما يعني أن العدوى لم تعد في حيز جغرافي بلدي ضيق.
المشكلة في عكار بدأت مع ارتفاع سعر المحروقات الذي حال دون قدرة السكان على استخدام الآبار الجوفية، وتوقف مصلحة مياه الشمال عن تزويد المنازل بالمياه. وشرح رئيس بلدية المحمرة، حيث انتشار الوباء في مخيم اللاجئين السوريين، عبد المنعم عثمان، أن المشكلة تكمن في أن السكان بدأوا باستخدام قناة الري، سواء للاستهلاك المنزلي أو لري المزروعات، رغم وجود تعديات كثيرة عليها بالصرف الصحي. وقناة الري تمتد على مساحة كبيرة لتغذية كل منطقة السهل، ملوثة بالمجاري، سواء من مخيمات اللاجئين أو من القرى المحيطة، ما سهّل انتشار الوباء في مناطق عدة. هذا فضلاً عن أن منطقة المحمرة تعتبر رئيسية في عكار حيث يوجد سوق تجاري يتوقف فيه كل زائري عكار والسكان للتبضع.
حل غير مستدام
أما في عرسال، فقد بدأت خلية الأزمة في البلدية بخطوات احترازية بالتعاون مع وزارة الصحة ومفوضية اللاجئين ومنظمة اليونيسف والصليب الأحمر لتدارك الأمور، كما أكد رئيس البلدية باسل الحجيري. وكذلك بدأت وحدة الترصد الوبائي في وزارة الصحة بأخذ عينات لفحصها بغية تحديد بقعة الانتشار والتشخيص السريع للمرضى. لكن المشكلة تكمن في التخلص من الصرف الصحي. حالياً تم الاتفاق على جمعها في صهاريج ونقلها إلى منطقة بعيدة، لكن هذا الحل ليس مستداماً. فقد سبق ورفضت وزارة الطاقة انشاء معمل لتكرير الصرف الصحي في منطقة عرسال لأسباب مجهولة، ومعمل التكرير في بعلبك معطل، كما قال الحجيري.
لا جواب من وزارة الصحة
على مستوى وزارة الصحة، أكدت مصادرها أنه تم تشكيل خلية أزمة لمتابعة الوباء من مختلف الوزارات ومن ممثلين عن المنظمات الدولية. وقد قامت وحدة الترصد الوبائي بجمع عينات لمعرفة الواقع على الأرض.
لكن المشكلة تكمن في توقف تمويل المنظمات لمعالجة الصرف الصحي في المخيمات. وهي شبيهة بالمشكلات التي تحصل في باقي الوزارات. فشح التمويل أو توقفه عن برامج عدة، سواء في وزارة الصحة أو التربية، أتى بذريعة عدم وجود شفافية وعدم إجراء الإصلاحات المطلوبة. بينما المسؤولون في لبنان يعتبرون أن المنظمات الدولية تتخلى عن اللاجئين وتلقي بالأعباء على عاتق الدولة اللبنانية.
حالياً يتم التباحث في كيفية متابعة أزمة الكوليرا، وقد وصلت كميات كبيرة من الكلور لتعقيم المياه. لكن هذا الحل ليس مستداماً، بل يجب معالجة الصرف الصحي.
ربما لم يدرك المسؤولون مخاطر الكوليرا بعد، لأنه لم يُعرف بعد مدى انتشاره في لبنان. ولعل التوصيف الدقيق لواقع الحال هو تعليق رئيس قسم الأمراض الجرثومية في مستشفى القديس جاورجيوس عيد عازار الذي قال في حديث لـ"المدن": "لقد أعادتنا المنظومة مئة عام إلى الوراء، عندما كانت الأوبئة تنتشر بسرعة جراء عدم وجود أنظمة صرف صحي".
قنبلة موقوتة
وشرح عازار أن لبنان حالياً حيال قنبلة موقوتة أعدت له منذ بضعة سنوات. ويمكن إيجازها بانحلال كل ما يتعلق بالصحة العامة في البلد. فأهم إنجازين حصلا على مستوى الطب في المئة عام الفائتة هما التلقيح وفصل مياه الصرف الصحي عن مصادر مياه الشرب. لكن في لبنان عدنا مئة عام إلى الوراء في هذا الشأن، وبتنا نشهد انتشار الأمراض ناجمة عن تلوث المياه بالصرف الصحي. الفرق بين تلك الأمراض ووباء الكوليرا أن الأخير سريع الانتشار.
وسأل عازار: كيف تقبل المنظمات الدولية، التي لديها معايير عالية للصحة، بإنشاء مخيمات لا تحترم تلك المعايير؟ وكيف تقبل البلديات، ومصالح وزارة الصحة في كل قضاء، بمخيمات شيدت بالطريقة الحالية؟ وأجاب: ربما هناك تشابك مصالح بين جميع هذه الأطراف أدت إلى حشر الاف الأشخاص في مخيمات تعيش على مجاري الصرف الصحي من ناحية، وقريبة من مصادر مياه الشرب ومن مصادر مياه ري المزروعات من ناحية ثانية.
وأضاف أن إحدى الفتاوى على الطريقة اللبنانية، أقدمت عليها المنظمات الدولية، قامت على جمع الصرف الصحي في مستوعبات بجانب المخيمات، يتم التخلص منها من خلال نقلها إلى معامل التكرير. لكن الأخيرة معطلة في كل لبنان. زد على ذلك، توقف تمويل هذه المشاريع من المنظمات الدولية.
أمام مخاطر كبرى
وشدد عازار على أن النتيجة التي وصلنا إليها اليوم أن المسؤولين وضعوا البلد أمام خطر انتشار الأوبئة التي تتناقل عبر الافرازات المعوية، والكوليرا تعتبر الأكثر خطراً والأكثر سرعة في الانتشار. وحالياً، المشكلة أن الانتشار لم يعد يقتصر على بقعة معينة. فإلى حد الساعة اكتشفت حالات في عكار في أكثر من منطقة.. وفي عرسال.
وأضاف أن احتواء الحالات يجنب لبنان كله خطراً كبيراً، هذا في حال كان عدد الحالات قليلاً. أما في حال كان العدد كبيراً، بمعنى إمكانية اكتشاف حالات وبقع انتشار في مناطق أخرى، لم يتم الرصد الوبائي فيها بعد، فسنكون أمام وضع صعب جداً، لأن التفشي سيكون مجتمعياً بسبب التخالط.
وحول مخاطره الصحية، شرح عازار أن مشكلته المرضية أنه يؤثر كثيراً في فئتين: الأطفال وكبار السن. فالاسهال الحاد يؤدي إلى جفاف الجسم عند الأطفال الذين ليس ليدهم كميات سوائل كبيرة في جسمهم، وكبار السن، الذين يعانون من أمراض صحية مزمنة، معرضين لجفاف المياه من جسمهم أيضاً.
تعليقات: