لم يمت طبيب الفقراء، الدكتور أنور علّوه، بل أذن بولادة جديدة.
هكذا قيل عن الدكتور أنور علّوه، الذي كرّس حياته وعلمه لمساعدة المرضى حتى الرمق الأخير، فما كان من عشيرته «آل علوه» إلا مكافأة جهوده باتخاذ قرار يُعدّ من أكثر القرارات جرأة وصعوبة في التطبيق، وهو التوقف عن إطلاق النار في الهواء خلال المآتم.
الدكتور أنور علّوه طبيب صحة عامة. عمل طويلاً في عيادته في منطقة الهرمل، باذلاً علمه وجهده لتطبيب أبناء منطقته في أيّ وقت وتحت أي ظرف. عند كل مرض يستعصي على العلاج، تسمع أبناء الهرمل يقولون «روح شوف أنور»، وهو المعروف بخبرته الطويلة في مجال الطب، إضافة إلى التعرفة الزهيدة التي كان يتقاضاها، ولم تكن تتعدى العشرة آلاف «وإذا ما معك بلاها» حتى وقت قريب، ووصلت أخيراً إلى الخمسين ألفاً، وجاعلاً عيادته مجانية لمن لا يستطيع تحمّل كلفة العلاج.
حتى في مرضه المستعصي في الآونة الأخيرة رفض الاستسلام. في المستشفى حيث كان يخضع للعلاج، بقي يتنقل بين غرف مرضاه حاملاً أمصاله من غرفة إلى أخرى، متناسياً أوجاعه، ساعياً لإكمال رسالته السامية. هناك، حيث كنت أرافق أمي في أيامها الأخيرة، لم يبخل عليّ بأسماء أدوية يستعملها شخصياً لتشابه مرضه ومرضها.
في ساعات حياته الأخيرة، تجمّع العديد من أهل الهرمل ومرضاه في تظاهرة عند مدخل العناية المشدّدة للاطمئنان إلى صحة طبيبهم المحبوب. وعرفاناً له من قبل مستشفى العاصي، قدّم المستشفى «عن روح أنور» حسومات على الفحوصات والصور الشعاعية والعمليات لمدة شهر كامل.
لم تكن جهوده طبية فقط، بل حاول الاستفادة من محبة الناس وأهل عشيرته له، لإطلاق مبادرة تغيّر واحداً من أعراف العشائر، وهو التوقف عن إطلاق النار في الأفراح والأتراح. مبادرة بقيت قيد التداول لسنوات في أروقة الغرف المغلقة، ولم تبصر النور إلا قبل وفاته بفترة وجيزة. طبّقها أبناء «جبّ رشيد» الذي يتحدّر منه الدكتور أنور ضمن الإطار الضيّق في جنائز عدة، إلى أن جاءت الوفاة متزامنة مع وصية منه بعدم إطلاق النار خلال جنازته، فما كان من أبناء العشيرة بكامل أجبابها إلا أن نفّذوا الوصية، ووقّعوا الميثاق «على حبّ أنور» الذي يشكل سابقة في تاريخ العشائر، ليُعمّم على الجميع. وتعهّدت العشيرة بعدم إطلاق الأعيرة النارية خلال المآتم، و«كلّ مخلٍّ بهذه الوثيقة ينقل الجنازة من دون مشاركة أحدٍ من أبناء عشيرته».
تُعرف العشائر على مرّ التاريخ بعادات وتقاليد متوارثة، يدأب أهلها على ممارستها في طقوسهم اليومية، منها ما هو مرحّب به كالكرم والحميّة، ومنها ما هو مستنكر، مثل الثأر مع ما يخلّفه هذا الأمر من قتلى وجرحى في صفوف الأبرياء. يُشفى غليل القاتل بتنفيس غلّه، معتمداً على أخذ حقه بيده، ضارباً عرضَ الحائط بتواجد الدولة وأجهزتها... علاوة على استعمال السلاح عند كلّ مشكلة تواجهه، معتبره زينة الرجال، كما استعماله في الأفراح والأتراح، تعبيراً عن حزنه أو فرحه بالمناسبة.
لذا جاءت هذه المبادرة المشهود لها بجرأتها لتشكل خطوة هامة في مسيرة هذه العشيرة. فهل تلقى مبادرة الدكتور أنور صدى لها عند بقية العشائر؟ وهل تحذو العشائر الأخرى حذو «آل علّوه»، نافضة عنها ثقل عادةٍ كانت ولا تزال تشكل خطورة كبيرة على الأفراد؟
تعليقات: